كتاب: (عمائر المنمنمات الإسلامية). تأليف: محمد مهدي حميدة. قراءة
أولية
بقلم: محمد الزبيري
كتبهامحمد الزبيري ، في 21 يناير
2012
من بين الإصدارات التي استأترت باهتمامي
غداة تناقل وسائل الإعلام لخبر صدورها وتشوقت لقرءتها كتاب:(عمائر المنمنمات الإسلامية) الصادر عن دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة سنة 2010،
للأكاديمي الباحث والناقد، أستاذ تاريخ الفن بمعهد الفنون بإمارة الشارقة الأخ
الكريم محمد مهدي حميدة؛ في 404 صفحة من الحجم المتوسط، في طبعة أنيقة، حافلة
بالمعلومات القيمة والنادرة؛ مزدانة بأزيد من 230 صورة من المصورات المنتمية لفن
التصوير الإسلامي الواردة في بابها والتي تناولها الباحث بالدرس والتحليل في سياق
تحليله لمادة موضوعه، بأسلوب متأني، سهل واضح وسلس، بمنهج وصفي تحليلي متقن.
وشاءت الأقدار أن التقي بالمؤلف
الكريم،على هامش مشاركتي في الدورة الرابعة عشرة لمهرجان الفنون الإسلامية
بالشارقة (2011)، فكان من أهم ما حققته زيارتي تلك، التعرف على هذا الباحث
المرموق؛ عرفت فيه كاتبا كبيرا وأستاذ كريما. ما أن تلتقي به حتى تشعر أنك فعلا
أمام شخص متميز في كل شئ: طيبوبة، وبساطة، وابتسامة صادقة دائمة، فضلا عن غزاة
العلم، ونبل الأخلاق، وحياء العلماء، وتواضع العظماء… صفات محببة ومرغوبة، تمكن
صاحبها تلقائيا من تبوء مكان مكين في قلب محاوره!
وعشية انتهاء مهمتي بالشارقة، وأنا
أحزم حقائبي للعودة إلى المغرب ليلة الثلاثاء 13|12|2011، فوجئت بالأستاذ محمد
مهدي حميدة بابتسامته المعهودة، يدخل الفندق الذي كنت أقيم فيه ليودعني..وكانت
طبعا تلك مفاجأة سارة! وكم كنت سعيدا تلك الليلة عندما أخرج هذا الباحث الكريم
والصديق الحميم نسخة من كتابه القيم (عمائر المنمنمات الإسلامية) الذي ودون عليه كلمات سأضل أعتز بها، ووقع النسخة وأهداها إلي!
فالكتاب فضلا عن أصالته وجدته في بابه،
تميز بالتأريخ الدقيق والموضوعي، والرصد الذكي الموثق للتصوير الإسلامي عامة، الذي
تتبع الباحث مساره بصبر الأستاذ لمخلص، وأناة الأكاديمي المتمكن. سواء عبر العمائر
الواقعية، أو من خلال فن المنمنمات؛
وإن كان قد اتخذ موضوعا وهدفا لكتابه دراسة عمائر المنمنمات الإسلامية. وفق تصنيف جديد، وبنقيب أكاديمي فريد، ووقوف متأني سديد، عند شتى
الجوانب الجمالية والتشكيلية والبنائية الكامنة في وراء تلك العناصر المعمارية
المميزة لكل منطقة من خلال منمنماتها، على امتداد رقعة العالم الإسلامي؛ والتي لم
تنل نصيبها الكافي من الدرس والتمحيص من قبل. إذ يحاول الكاتب في سياق بحثه
النموذجي الكشف لنا بطريقة أو بأخرى عن غنا تلك العمائر الإسلامية وثرائها
الجمالي، وتنوع عناصرها التشكيلية التي باتت تنتقل عبر المنمنمات،
من نطاقها العملي البنائي المحض، إلى المجال التشكيلي الجمالي الخالص. بتحليله
الرصين والصائب لمختلف أعمال التصوير الإسلامي، لاستجلاء مختلف القيم الجمالية
والشكلية التي تميز تلك العمائر، وكذا المنطق الذي يحكمها ويجعلها تشكل مرجعا يمكن
الاستناد إليه للتأسيس لتصانيف تستكنه العناصر الحيوية المعمارية (المنمنماتية)
المميزة لكل مرحلة على حدة. حيث يفترض الباحث أولا أن الفنان المسلم كان له منهجه
الخاص الذي يسلكه ويخلص له، بغض النظر عن مطابقته أو مخالفته للآخر. مزكيا ذلك
بدراسات معمقة، ممتعة ومفيدة، لأعمال العديد من المصورين الإسلاميين، من خلال
منمنمات شتى، تختلف باختلاف المشارب والمناطق. مغطيا مساحة زمنية هائلة، تعتبر من
أهم وأغنى فترات الفنون الإسلامية؛ تمتد من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر
الميلاديين. وقد بدا واضحا تمكن الباحث الأكاديمي من مادته، وطول باعه في منهجه،
من خلال سيطرته على هذه المساحة الزمنية الضخمة؛ مع القدرة على تغطيتها والتحكم في
زخمها الفني بأسلوب وصفي دقيق، ومنهج علمي تحليلي أصيل.
فقد استهل الباحث كتابه القيم بفضل أول عن
تاريخ التصوير الإسلامي وأهم مدارسه، مفتتحا مادة هذا الفصل بالحديث عن الفسيفساء
التي هي (أقدم الأساليب المستخدمة في إنتاج المصورات الإسلامية)(1) مستعرضا
تاريخها ونماذج من بداياتها، ليخلص للحديث عن التصوير الإسلامي المائي على الجص،
وليعبر بنا مساحة زمنية من تاريخنا، غنية بهذا النوع من التصوير تمر عبر (قصير
عمرة) الأموي؛ ولينبه إلى حقيقة هامة وملاحظة طريفة، متعلقة بالارتباط الوثيق بين
التصوير والعمارة في فنون الإسلام. إذ كانت العمارة حاوية للتصوير في البداية، على
أن يصير بعد ذلك التصوير حاويا للعمارة عبر المنمنمات!(2).
حيث سيفصل القول عن جداريات قصير عمرة، وقصر الحير الغربي، وسامراء بالخصوص التي
يسجل أنها ستؤسس لأعراف تشكيلية إسلامية ستتبلور فيما بعد لدى المصورين
المسلمين.(3) مبرزا أهميتها سواء من حيث قيمتها التاريخية أو الجمالية والفنية؛
معلقا على بعض النماذج المنتقاة من تلك الأصناف بدقة واستفاضة، تنم عن كفاءة عالية
وإحاطة تامة بالموضوع. من خلال تحليله السليم والموفق لتلك التصاوير وما تلاها من
تصاوير الحمام الفاطمي بمصر المتأثرة بالأسلوب السامرائي، وتصاوير (الكابلا
بالاتينا) بصقلية..
بعد تلك الرحلة الشيقة المفيدة والممتعة،
مع نشأة التصوير الإسلامي المحمول على العمائر، يخلص الباحث إلى الحديث عن التصوير
المضمن في الكتب والمخطوطات. متتبعا نشأته وانطلاقته الأولى، مند أوائل القرن
الأول الهجري. مستعرضا أهم الكتب والمخطوطات التي شكلت الحامل الأول لهذا الفن؛
ابتداء من كتاب: (كليلة ودمنة)، مرورا بكتب: (البيطرة)، و(خواص العقاقير)، و(منافع
الحيوان) وغيره. لتحط بنا رحلة المؤلف التصنيفية في رحاب المدارس البارزة في فن
التصوير الإسلامي، وفي استضافة أشهر المصورين المسلمين، مع تحليل نماذج عن كل فئة.
بدأ من المدرسة العربية التي تعد أم المدارس التصويرية المعروفة باعتنائها بتزويق
المخطوطات. مذكرا بنشأتها وأهميتها وتأثيرها؛ مع ذكر بعد مميزاتها، كالملامح
العربية الواضحة على سحنات وهيئات أشخاصها، وكاستغنائها عن فكرة الإطار ذي
التأثيرات الساسانية (حباة اللؤلؤ)، وظهور الأشخاص بكثرة في أعمال مصوريها، وبعدها
عن محاكاة الطبيعة.. إلى غير ذلك من المميزات التي أغنت الكتاب وكشفت عن عمق بحث
المؤلف في عالم التصوير الإسلامي، لاستجلاء أسرار مادته بكل اقتدار وتمكن. ليختم
الحديث عن المدرسة العربية بشيخها الواسطي؛ وليأتي الكلام بعد ذلك على المدرسة
المغولية في إيران، التي استهل الحديث عنها بإشارته لتصاوير مخطوط كتاب (منافع
الحيوان) التي يعتبر الكاتب أسلوب تصويرها مرحلة انتقالية بين المدرسة العربية
والمدرسة المغولية؛ وكذا مخطوط كتاب: (الآثار الباقية عن القرون الخالية)
للبيروني…مع تحليل لنماذج مصورة عن كل صنف. وليصل بعد ذلك إلى تعداد سمات التصوير
في المدرسة المغولية في إيران، ثم المدرسة التيمورية بكل أطيافها، والتي تطرق الباحث
أيضا لأساليبها باستفاضة وتميز. متوقفا في آخير هذه الجولة عند المصور الكبير كمال
الدين بهزاد؛ حيث يرى الباحث أن هذا الفنان (قد استمد عناصر لوحاته من الطبيعة ومن
الطراز المعماري الإسلامي ومن الأشكال الزخرفية…)(4). ويتابع الأستاذ محمد مهدي
حميدة قراءته لأسلوب بهزاد ملاحظا أن أبرز ما يميز أعماله هو تكوينها، لاهتمام
الفنان بحركات أشخاصه وتموقعها في مساحات أعماله الهندسية المتجاورة..الخ.
وينتقل الباحث بعد ذلك للحديث عن المدرسة
الصفوية الأولى والثانية، مع استعراض سماتها بإسهاب، ثم المدرسة المغولية الهندية
بمراحلها وسماتها؛ ليختم الفصل بالحديث عن المدرسة التركية العثمانية. أما الفصل
الثاني المعنون ب: (أنواع وأشكال العمائر في التصوير الإسلامي) فقد قدم له المؤلف
برصد لأشكال وأنواع العمائر التي تناولها التصوير الإسلامي، في دراسة وصفية لهذا
الجانب من المنمنمات؛
مبتدئا بالعمارة المدنية، متحدثا عن القصور التي يلاحظ أنها حظيت بحصة الأسد من
اهتمام المصور المسلم الذي اهتم بمعالجة عناصرها داخليا وخارجيا. مستهلا بحثه في
هذا الباب بالمدرسة العربية وطرق معالجتها للواجهات والمناظر الخارجية، محللا
نماذج معينة من مقامات الحريري ومخطوطة (رياض وبياض).. وكنموذج لعمارة القصور في
منمنمات المدرسة المغولية، يقدم الباحث تحليلا لمصورة (مقتل ماني) من مخطوط
(الشاهنامة ديموت)، ومصورة ( أنو شروان يتناول الطعام).. وعن المدرسة التيمورية
يقدم تحليلا عن أعمال مصورة (وصول خسرو إلى قصر شيرين) من مخطوط (المنظومات
الخمس)، ومصورة (جلنار تطل من النافدة على اردشير) من مخطوط (الشاهنامة) وغيره من
المصورات التي يحويها هذا الفصل الهام، والتي يستعرضها الكاتب مقدما لها قراءة
مفيدة وتحليلا شيقا لا يخلو من جدة وأصالة. بنفس الإيقاع يتطرق الباحث لتصاوير
القصور في منمنمات المدرسة الصفوية التي يستعرض نماذج منها ويقوم بتحليلها بكل
تمعن واقتدار، كمصورة (وصول الشاه إلى قصره) من مخطوط (قران السعدين)، ومصورة
(محادثة مع الكسندر) وغيرها.. ليصحبنا الباحث معه في رحلة استجلاء مكامن الثراء،
واكتشاف الجمال الكامن خلف دقة هندسة المجال وإحكام البناء، عبر خصائص كل مستوى من
مستويات التكوين الخلاق في العديد من المنمنمات..
وعن الجانب المعماري في منمنمات المدرسة المغولية الهندية، يقوم الباحث بتحليل
مصورة (البطل سعيد وبرفقته خوش خورم أعلى القصر) من مخطوطة: (حمزة نامة)، مبرزا
أسس تكوينها وجمالياتها وعناصر بنائها.. ثم قصور المدرسة التركية العثمانية التي
اختار الأستاذ محمد مهدي أن يحاورها من خلال تحليل مصورة: (بهرام جور في مجلس
الطرب) من مخطوطة (خمسة نظامي)، التي تبدو فيها واجهة القصر واضحة، مجسدة خصائص
عمائر هذه المدرسة.. وبعد أن يجول بنا الباحث طويلا حول واجهات قصور المنمنماتالإسلامية،
يدعونا لنلج معه تلك القصور، ليتحفنا بما تحويه أروقتها من عناصر وتكوينات، تميز
كل مدرسة على حدة. بادئا بالمدرسة العربية، ليبرز خصائص التصوير الداخلي لقصور
منمنماتها؛ بتحليله لعينات مختارة منها، وليختم القول عن تلك الهندسة الداخلية
للمدرسة العربية بملاحظة (ابتعاد المصور المسلم عن محاكاة الأبنية والعمائر
الواقعية ولجوئه إلى تقديم عمارة اصطلاحية توحي بطبيعة المكان وترمز له دون أن تنقله
نقلا حرفيا، وكانت هذه سمة رئيسية ومميزة لرسوم عمائر المخطوطات الأولى)(5). وبنفس
العمق في التحليل يستعرض الباحث خصائص ومميزات وعناصر التصوير الداخلي لقصور المنمنمات،
من وجهة نظر المدرسة المغولية، والتيمورية، والصفوية، والمغولية الهندية، والتركية
العثمانية. وبنفس الأسلوب الشيق والمفيد، المتسم بعمق التحليل وغزارة المعلومات
التي يستدعيها المنهج الوصفي التحليلي المعتمد من طرف الباحث، يوغل بنا الباحث
شيئا فشيئا في أعماق العمائر المصورة في المنمنمات الإسلامية، منتقلا من العام إلى الخاص. فبعد الدراسة الخارجية والداخلية
للقصور، يخص المؤلف حجرات النوم داخل تلك العمائر بدراسة خاصة، مستجليا صورها
مستنطقا مكوناتها من وجهة نظر تلك المدارس التصويرية السالفة. وكالعادة اعتمادا
على نماذج منتقاة، يقوم بتقديم قراءة تحليلية لها؛ ليخلص للحديث عن عناصر معمارية
مميزة داخل مختلف المدارس، تحت عنوان فرعي: (جواسق مع عناصر وعمائر خارجية)،
و(حجرات ومجالس مع عناصر وعمائر خارجية) وحمامات وغيرها.. معززا بحثه كالعادة
بعينات منتقاة من مختلف الأنماط، تبرز هذا الجانب الهام العملي والجمالي من عمائر المنمنمات.
ليخرج بنا بعد ذلك لمشاهدة ودراسة عمائر المدن والقرى من الخارج، عبر الشوارع
والميادين، وكذا الساحات، ومناظر الكعبة، والمدارس، ودور القضاء، ثم العمائر
العسكرية.. بمرافقة العديد من المنمنمات حسب المدارس والمصورين، منقبا في أعماق المكنونات التي تحويها مخطوطات حضارتنا
العريقة. لتصل رحلتنا الفنية مع هذا الكتاب الحافل بالمتعة والفائدة إلى محطة فصله
الثالث المعنون ب: (دراسة تحليلية لأسس تصميم المصورات الإسلامية).
فرغم النتائج التي توصل إليها
الباحث، والتي تتمثل في أن الفنان المسلم كان له منهجه ومعاييره الخاصة، بغض النظر
عن مخالفتها أو مطابقتها للمقاييس المعتمدة بعد ذلك في الفنون المعاصرة كما أوضحنا
ذلك سابقا؛ لكنه يقرأ تلك الفنون ويستنطقها على ضوء تلك الأسس التشكيلية الجمالية
للتصميم، المنتمية للعصر الحديث. حيث يقف بنا وقفات متأنية تحوي الكثير من الفائدة
والمتعة معا،عند ماهية التصميم، وأهم عناصره وأسسه التشكيلية المتمثلة في الخط،
والشكل، والفراغ، والمنظور، واللون، والضوء، والظل.. مع الاستفاضة في الحديث عن كل
عنصر من هذه العناصر بدراسات تجاوزت في بعض الحالات الست صفحات. وتحت عنوان: (أهم
قيم وأسس التصميم الجمالية في المصورات الإسلامية)، وتحت مسميات: الإيقاع،
والاتزان، والوحدة، والنسبة، والتناسب، المتحكمة في العلاقة بين مختلف مفردات
التركيب؛ يسهب الكاتب في الحديث عن تفاصيل وأدوار تلك المسميات، في بناء وإنجاح
ديناميكية البناء المعماري في المنمنمات الإسلامية. معززا أطروحته بأمثلة ونماذج منتقاة بعناية، يخضعها للدرس
والتحليل. فعند حديثه عن عنصر الإيقاع الذي يكتنف معمار المنمنمات الإسلامية مثلا، يطرح نماذج كمصورة الواسطي الممثلة لراعية الإبل: (..وأهم ما
تمتاز به هذه المنمنمة هو إيقاع الانحناءات المتعرجة الكثيرة من ظهور الإبل
وأعناقها التي تنتصب على عدد لا حصر له من السيقان…)(6). وبنفس العمق في التحليل
المتزامن مع تطبيق ذلك على نماذج من المنمنمات،
تناول الباحث باقي القيم الأخرى كالاتزان، والوحدة، والتناسب، وغيرها.. دون أن
يغفل تحليل بعض العينات على ضوء المنطق الرياضي، كالتحليل الذي يقدمه لمنمنمة
الواسطي الموجودة على ظهر الورقة رقم 43 بمخطوط مقامات الحريري المحفوظة بالمكتبة
الوطنية بباريس، التي أبرز الباحث أوجه خضوعها لمنطق ما يعرف بالنسبة الذهبية.
(وفي المنمنمة (شكل 233) من أعمال الواسطي، نجد أن الفنان قد وزع مكونات الصورة
توزيعا يكاد يحقق النسبة الذهبية بأسلوب تلقائي…غاية في إلإحكام، فالحارث يقف في
ردائه الأسود ليمثل فاصلا بين مجموعتين من الرجال قد جلسوا يتسامرون، وهاتان
المجموعتان تتكونان من أعداد فردية بنسبة 1:3 تقريبا حيث يختفي جسد شخص رابع ولا
يظهر منه سوى رأس ملون بألوان باهتة..)(7). وعلى هذا المنوال يسترسل الباحث في
تحليله العميق لعدد من النماذج المختارة من عيون المنمنمات الإسلامية.
أما الفصل الرابع المعنون ب: (دور
الأشكال المعمارية في البناء التشكيلي للمصورة الإسلامية)، والذي يتناول بالبحث
والتحليل الأسس الجمالية والتشكيلية لتصميم العمائر في المنمنمات الإسلامية حسب المدارس، فقد مهد له الباحث بالكشف عن جملة من الأفكار
والملاحظات والحقائق الهامة، من بينها أن الفنان المسلم لم يكن يستهدف تصوير
العمائر في حد ذاتها، (وإنما جاءت كأحد الحلول التشكيلية داخل المصورة حيث ارتبطت
بالمعنى والموضوع محل التصوير)(8) ملاحظا أن حضور العمائر في المنمنمات بدأ بصورة تغلب عليها البساطة والتلخيص ليستمر حضورها في التطور حتى اتخذت
أشكال مركبة توزع على جسد المنمنمة، كعنصر بنائي وتشكيلي يكتسي حضوره أهمية خاصة
في المنمنمات.
مبتدئا كالعادة بتفصيل القول عن ذلك برسوم العمائر في المنمنمات المنتمية للمدرسة العربية التي يلاحظ المؤلف من جملة ما يلاحظ عنها: غلبة
أسلوب التماثل والتوازن على نماذجها، وإقران النظرة الداخلية بالخارجية لمناظرها
في نفس الآن.. إلى غير ذلك من الحقائق والاستنتاجات المهمة التي توصل إليها
الباحث؛ ليتحدث بعد ذلك بتفصيل أكثر عن مدى اعتماد المصور المسلم على جملة من
القيم التشكيلية في رسم عمائره وطرق تعامله معها؛ كالخط، والشكل، والمنظور،
واللون، والضوء، والظل. ثم القيم الجمالية بعد ذلك من قبيل: الإيقاع، والاتزان،
والوحدة، والتناسب… مقاربة ناجحة ومفيدة حقا تلك التي يسحب الباحث منطقها على باقي
المدارس الأخرى التي يتناولها من هذا المنظور بأسلوب شيق، ليصل بنا في ختام كتابه
الرائع إلى تسطير جملة من الخلاصات ولاستنتاجات التي توصل إليها هذا البحث
الأكاديمي المعمق والناجح، حيث اعتمد صاحبه المنهج الوصفي التحليلي الذي بالإضافة
إلى غزارة مادته البحثية، تمكن من معالجة أكثر من 230 منمنمة متنوعة، تنتمي إلى
كافة المدارس والمناهج التصويرية الإسلامية؛ مصورات يعتبر التنقيب عنها وفيها،
والوصول إليها، وجمعها، وترتيبها، وتحليلها، في حد ذاته تحديا كبيرا، وإنجازا
عظيما يحسب للمؤلف. حيث نظفر بثروة منتقاة بعناية من مصورات (تعبر في معظمها عن
مختلف أنواع العمائر المرسومة)(9). من تلك النتائج الهامة والعديدة، تأكيد الباحث
على الدور الهام الذي لعبه رسم العمائر في بناء المنمنمات،
من حيث اعتماد الفنان المسلم على استغلال الحيز والفضاء الذي ينتج عن مختلف
التحديدات المعمارية كالأقواس مثلا…مع التنبيه إلى أن المنطلق كان من البساطة
والتلخيص مع المدرسة العربية، ليتجه بعد ذلك نحو التركيب والتجسيم كلما تطورت
المدارس، وصولا إلى المدرسة التركية العثمانية. وكذا التنوع المعماري المتزن لبناء
العناصر المعمارية، مابين تلك المتوازنة المتماثلة، والأخرى ذات الأشكال
والتكوينات المختلفة. هذا بالإضافة إلى تسجيل الباحث أن المصور المسلم وإن كان قد
اعتنى برسم مختلف أنواع العمائر الدينية والعسكرية، والمدارس والإقامات المتنوعة،
إلا أنه لم يهتم كثيرا بعدة قضايا على علاقة بها، كالضوء والظل المنعكس على
العمائر، والمنظور الذي قدم الفنان المسلم حلولا بديلة له.. بخلاف بعض الأعمال
المنتمية إلى المدارس التصويرية المتأخرة. كذلك يسجل المؤلف في هذا الباب: (غلبة
التسطيح على رسوم عمائر التصوير الإسلامي في كافة المدارس تقريبا)(10)…إلى غير ذلك
من النتائج الهامة التي توصلت إليها الدراسة، والتي لن تستطيع قراءتنا السريعة
الإحاطة بها في هذه العجالة. ونترك للقارئ الكريم فرصة اكتشافها مع غيرها من الدرر
الثمينة التي يزخر بها هذا الكتاب القيم الذي تكشف مادته أن صاحبه قد أنفق في
سبيله الكثير من الجهد والوقت ليخرج بهذه النتيجة الموفقة. فهو حقا كتاب في بابه
لا غنى عنه لأي طالب أو باحث في مادة الفنون العربية والإسلامية عموما؛ حيث جاء
ليسد فراغا كانت تشكو منه المكتبة الفنية العربية؛ بتطرقه لهذا الجانب الذي لم
يتناول من قبل بمثل هذا البحث والتحليل والتخصيص. كما فتح الكتاب بابا واسعا
لتعميق البحث في جملة من القضايا ذات العلاقة بهذه الجوانب المعمارية البنائية
والتشكيلية، ومختلف لقيم الأخرى التي يزخر بها تراثنا الفني الإسلامي، الذي لازال
في حاجة إلى التنقيب في مكنوناته، والنظر إليه بعن أبنائه المخالفة لمنظور
المستشرقين الذين مهما قدموا فإنهم في الأخير قد فرضوا علينا النظر إيه بعين
واحدة، ومن جوانب دون أخرى.
هوامش:
2ـ نفس المرجع ص22
3 ـ نفسه ص:28
4 ـ نفسه ص:55
5 ـ نفسه ص:94
6 ـ نفسه ص:298
7 ـ نفسه ص:304
8 ـ نفسه ص:311
9 ـ نفسه ص:371
10 ـ نفسه ص: 372






0 التعليقات:
إرسال تعليق