السبت، 9 مارس 2013

فن ازالة الغشاوة عن الأبصار


فن ازالة الغشاوة عن الأبصار

كتبهامحمد الزبيري ، في 31 أكتوبر 2006 

 مقال عن  فن الفنان الفلسطيني الكبير اسماعيل شموط , كانت قد نشرته لي جريد العرب اونلاين يوم 18/9/2006تحت عنوان
الفلسطينى فى خصوصيته
ريشة اسماعيل شموط تنفث حمم النيران فى وجه الاحتلال


لوحة للفنات اسماعيل شموط
 



محمد الزبيرى *

اسماعيل شموط هو احد أبرز رموز الفن الفلسطينى الذى شكل رافدا من أهم روافد الفنالعربي، والذى تميز عموما بالتمركز حول القضية والالتزام رغم اختلاف المذاهب والمشارب، فأعطى للفنان الفلسطينى خصوصية واضحة جعلته يرسى قواعده على أسس صلبة أتاحت للأجيال اللاحقة النهل من معين فن متين شكلت ثنائية الثورة والتراث مرجعيته التابثة.
غير أن المادة التاريخية لا تسعفنا للحديث بوضوح عن تشكيل فلسطينى بالمعنى المعاصر قبل سنة 1948؛ إذ نكاد نجزم بعدم وجود تشكيل قبل ذلك، واقصد لوحة الحامل والتمثال المستقل وليس الحرف والفنون الشعبية. فلم تسمح الظروف غير المستقرة هناك أيام الاحتلال الانجليزى بتبلور فن حديث باستثناء حالات منفردة هنا وهناك تعد على رؤوس الأصابع مثل الفنان- الظاهرة جمال بدران الذى مارس الفن مند العشرية الأولى للقرن العشرين.
ويمكن للحديث عن الفن الفلسطينى أن يكون أكثر وضوحا وواقعية إذا تناولناه على ضوء القضية، من خلال حياة فنان خرج من رحم المأساة الفلسطينية، وكرس حياته وفنه لخدمة قضية أمته من خلال فنه، إذ تعتبر سيرته الفنية تاريخا للحركة الفنية الفلسطينية. انه فنان عايش تلك المنعطفات الخطيرة فى حياة الشعب الفلسطيني. أعطاه الله موهبة فذة، ورغبة جادة، فسخرها مند طفولته للتعبير عن هموم شعبه. وشخص الجور الكبير المنقطع النظير، فى تاريخ البشرية الذى وقع على هذه الأمة، فراح يلتقط لب القضية ويصدم بها المتلقين الذين هم ثلاثة أصناف حيال لوحاته: 1- أبناء المحنة؛ 2- المعتدون؛ 3- المحايدون.
فابن المحنة يرى فى أعمال الفنان نفسه ومصيره، فلا يملك إلا أن ينحاز إلى خيار المقاومة، إذ يحكى عن احد معارضه الأولى فى غزة أن بعض الزوار صدموا عندما وجدوا أنفسهم مجسدين فى لوحاته، فانهار بعضهم بالبكاء، لأنهم لمسوا مصيرهم فى لوحاته.
أما الصنف الثانى الذى هو المعتدى فكم تغضبه لوحات هذا الفنان الصارخة بالإدانة والاستنكار والاستهجان والاحتقار المرفوعة فى وجه المحتل. فلا غرابة أن نرى جنودا إسرائيليين سنة 1967 يطلقون النار على لوحتين من لوحات الفنان، كانتا معلقتان على جدار داخل مكتب الجامعة العربية بالقدس الشرقية عند اقتحامهم له! اللوحة الأولى كانت تحمل عنوان: ربيع فلسطين ، والثانية : النكبة . وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على نجاح هذا الفنان فى إيصال رسالته السامية، ولظى فرشته النارية، إلى أفئدة المحتلين.فرغم مرورهم السريع، ما إن تطلعوا إلى الجدار حتى صدموا برسالتين قويتين أشعلت النار فى قلوبهم؛ رسالة لوحة النكبة تدين وتشجب تقتيلهم وتشريدهم للشعب الفلسطيني؛ أما رسالة لوحة ربيع فلسطين فقد طعنتهم بخنجر إصرار هذا الشعب البطل على الصمود والمقاومة، وعزمه على العودة واستعادة أرضه مهما طال الزمن! فلم يتمالك الصهاينة أنفسهم، ولم يستطيعوا إلا أن يترجموا شدة غضبهم بإطلاق الرصاص على اللوحتين! وكانت تلك الحادثة فى نظرى أعظم وسام وشح به صدر هذا الفنان، واكبر اعتراف بنجاحه فى مهمته؛ والحق ما شهد به رصاص الأعداء!
أما الصنف الأخير فهو صنف المحايدين، الذين ملأت مجالهم الدعاية الصهيونية المزيفة للحقائق، فجاءت لوحات فناننا لإزالة الغشاوة عن أبصارهم، ووصل التعبير الصادق إلى أفئدتهم وعقولهم، فلم يترددوا فى التعاطف مع هذا الشعب المنكوب والشهادة بأنه فعلا صاحب قضية عادلة ورسالة نبيلة.
هذا هو الفنان المقتدر شموط المولود فى بلدة اللد سنة 1930. فقد خرج إلى الوجود فى ظرف عصيب ليجد نفسه وسط هول المأساة؛ صرخات المظلومين والمنكوبين، ودماء الشهداء والجرحى تملأ سمعه وبصره، مثل مذبحة دير ياسين وإعلان قيام دولة المعتدين.. وهو طفل صغير شرد مع من شردوا وهجر مع من هجروا. ويكفى أن نذكر انه أثناء هجرة التيه والضياع فى الصحراء عند طرد الصهاينة لسكان بلدة اللد مسقط رأس الفنان، شهد أهوالا وكوارث لا يمكن أن تمحى من ذاكرة غضة طرية لطفل مرهف الحس متوقد الذكاء، حيث مات أخوه الأصغر الذى كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات فى الصحراء عطشا أمام عينيه عند طردهم من مدينتهم إلى مخيم خان يونس!
فلا غرابة إن رأينا الفنان يجسد تلك المأساة فى عدة لوحات عنون بعضها بكلمة: عطش ؛ ولتأتى عشرات اللوحات ناطقة بما عاناه شعبه ممثلا فى معاناته الشخصية.
وفى سنة 1953 أقام هذا الفنان أول معرض لأعماله بغزة، وكان أول معرض يقام فى فلسطين؛ وضم هذا المعرض 60 لوحة، منها لوحته الشهيرة: إلى أين؟ التى هى تجسيد حى لتهجيره من مدينته إلى مخيم خان يونس، مع ما اكتنف تلك الهجرة من موت وجوع وقهر واغتصاب للوطن والطفولة، وتشخيص لحادث مأساوى اجبر آلاف الفلسطينيين على تجرع مرارته، تحت قهر البندقية الصهيونية! لكن هذا الفنان أوتى من سحر الخطوط والألوان ما جعل ريشته تنفث حمم النيران فى وجه الاحتلال والعدوان. فكان ما سمى بفن النكبة الذى يعتبر فناننا رائده الأول؛ وتلك مرحلة امتد من 1948 إلى 1965؛ كما اعتاد النقاد وبعض الفنانين الفلسطينيين على وصفها بأنها مرحلة قوية شكلت للفنانين الذين أتوا بعدها أرضية صلبة لينطلقوا منها إلى آفاق أرحب، حاملين معهم قضيتهم. وهى مرحلة تشخيصية بامتياز، وان كان الفنان إسماعيل شموط قد عرج فيها على الواقعية والتعبيرية والرمزية لإيفاء القضية حقها. فهو لا ينحاز إلى مدرسة بعينها، ولا ينتصر لمذهب دون آخر ولا يعنيه ذلك كما سبق وأعلن فى عدة مناسبات؛ بل هدفه هو إيصال رسالته وحمل قضيته إلى العالم. لكن الفنان نفسه ـ وفى عدة استجوابات معه منشورة فى منابر مختلفة ـ يقسم تجربته الفنية إلى خمسة مراحل؛ المرحلة الأولى يسميها : مرحلة تداعيات المأساة، وكانت خلال الخمسينات، وتمثلها بامتياز لوحة إلى أين؟ .
المرحلة الثانية يسميها مرحلة التحفيز فى الستينات، ومن لوحاتها عروسان على الحدود ، ثم مرحلة مأساة الفلسطينيين فى المخيمات ولبنان فى السبعينات، ومن لوحاتها تل الزعتر . 
وهنا بدأ الفنان فى الابتعاد شيئا فشيئا عن الأسلوب التشخيصى الواقعي..ثم مرحلة الكويت وهى مطبوعة بلمسة رومانسية خاصة كانت قد بدأت فى التسلل إلى لوحات الفنان قبل انتقاله من لبنان إلى الكويت؛ ويمكن أن نضيف مرحلة أخيرة لنسميها مرحلة الحاسوب، حيث بدأ الفنان يوظف الحاسوب فى انجاز لوحات لا تخطئ العين فى تمييز طابعها الفلسطينى الخاص بهذا الفنان المقتدر.

لقد سعى إسماعيل شموط دائما إلى إبراز كل الوجوه الإنسانية والمأساوية والتاريخية والاجتماعية لقضية فلسطين، منشئا جسرا مختصرا بين المتلقى والقضية عن طريق الفن؛ عاملا على إذكاء شرارة الأمل والثقة فى النفس، رغم ما يخيم على جل لوحاته من جو يكاد يكون مأساويا يائسا؛ وذلك لتركيزه على أحقاب الاحتلال والاغتصاب. لكن الطفل الأمل يظل حاضرا بقوة فى جل لوحاته.إن اعتماد الفنان على هذا الأسلوب التشخيصى الذى يتحدث لغة تتموقع قريبا من لغة الملصق بعفوية تامة ـ كان هدفه دون شك ايضا رسالة الفنان إلى المتلقى بوضوح وفى زمن قياسي، جريا على عادة الفنانين الكبار؛ دون أن ينقص ذلك شيئا من الحساسية الرمزية القادمة من ساحة البطولات الميتافيزيقية فى ملحمة النضال الفلسطينى التى تحفل بها كل أعمال هذا الفنان مند 1953 إلى الآن.

* فنان تشكيلى مغربي.

0 التعليقات:

إرسال تعليق