كتبهامحمد الزبيري ، في 25 مايو 2006
نص نشرته لي جريدة:(
العرب الأسبوعي) الصادرة بلندن . عدد يوم السبت 20/5/2006 تحت عنوان:
قديس التراث الذي
لم يتنازل قط للواقعية الوصفية ولا للاستشراق
التصويري
في المشهد التشكيلي
المغربي يتفرد الفنان المرحوم احمد الشرقاوي بنهج مبتكر قوي, منصب
على متن الرمز, كحقل خصب غني بقيمه الجمالية التي أتقن الفنان تفكيكها وإعادة بناء
مكوناتها في لوحاته, قابضا على لب الجمال في تلك الرموز؛ معتمدا على الذاكرة
الجماعية المحتفية بالجذور, وتمكنه من أدوات محاورة مادته واعدة اكتشافها.
فبعد أن استطاع الشرقاوي التوصل إلى ما يشبه سر
فك شفرة الرموز التراثية المحلية وإعادتها إلى مكوناتها الأساسية: حروف وخطوط ذات
اصل عربي أو امازيغي, وأشكال هندسية: مثلثات ومعينات ودوائر, وألوان قوية ذات
إيحاءات ومراجع تراثية بيئية..ثم أعاد بناءها لبنة لبنة, آخذا بعين الاعتبار
المتطلبات التشكيلية والجمالية فقط. لتأتي أعماله طافحة بالجمال الخلاب المثالي
القادم من بهاء الماضي المدثر بقدسية دينية ذات لمسة صوفية. واضعا بذلك الفن
المغربي على سكة الحداثة التشكيلية المشيدة على مرجعية تراثية متينة, فاستحق أن
يلقب برائد التشكيل المغربي الحديث, وان يصبح نموذجا يحتدى من قبل العديد من الفنانين
الذين اتو بعده ولازالوا يستضيئون بنبراسه لحد الآن.
هذا الفتى البهي الطلعة
المولود سنة 1934 القادم من مدينة أبي الجعد العريقة إلى مدينة الدار البيضاء, حيث
تعلم أصول الخط العربي ومارسه بامتياز, لا ليوظفه في لوحاته كما هو شأن بعض الفنانين,
بل ليمارسه على أصوله كحرفة يكسب منها قوت يومه. لكنه استفاد منه أيما استفادة
فأغنى خبرته الفنية واظفى على أعماله لمسة صوفية؛ حتى وان غاب هذا الحرف عن لوحات الشرقاوي فان قدسيته تضل تكلل
تلك الأعمال بهالة من القدسية والروحانية المستمدة من القيم الدينية التي تشرب بها
فن وفكر الفنانالشرقاوي فأصبحت تحيل إليها
أعماله وتوحي بها بكل تلقائية وسلاسة بعيدا عن كل تكلف أو اصطناع. فيعد أن حصل على
دبلوم مدرسة المهن بباريس سنة1959 التحق بمراسم المدرسة العليا للفنون الجميلة
هناك ليحتك بكبار الأكاديميين الفرنسيين, ولتقوده رحلة القبض على أسرار الشكل
واللون إلى بولونيا حيث عمل أستاذا مساعدا بأكاديمية الفنون في فارسوفيا.فباتت
أعماله المشبعة بأريج الرمز محط الأنظار.
أعمال قال عنها مرة
الناقد المغربي محمد أديب السلاوي:(من الجلي أن أعمال الشرقاوي(التراثية)
لا تخاطب الذاكرة بقدر ما تتجه إلى المشاعر والأحاسيس, وتعكس بأمانة وصدق ما يكمن
في أعماق كل عربي من اعتزاز بالميراث القومي الحضاري والثقافي)(1)
فمع تلك الأعمال الغنية
بالقيم الجمالية والإيحاءات التراثية يحسم هذا الفنان فلا يدع مجالا للشك في
أن الفن العربي الإسلامي أوسع واشمل من أن يختزل في تعريفات سطحية ضيقة, ومزاعم
واتهامات باطلة من قبل المقولة التي تفسر الفنون الزخرفية العربية الإسلامية
بالرغبة في ملء الفراغ! بل إن تلك الزخارف نفسها التي طالما صنفها الغرب كفن
تطبيقي من الدرجة الثانية, أعاد إليها احمد الشرقاوي اعتبارها, وأثبتت
أعماله أن دلالتها ومعانيها كمفردات أساسية في بنيات الفن الإسلامي ابعد معنى
وأعمق أثرا من أن تكون مجرد أداة لملء الفراغ الذي يخشاه الفنان العربي على حد زعمهم.
فقدم للذات وللآخر فرصة إعادة اكتشافها’ وبهر هذا الغرب نفسه عندما فجر مكنوناتها
في لوحاته.
إننا نلاحظ في الأعمال
الأولى للفنان احمد الشرقاوي زهد الناسك وتقتير
الزاهد في الألوان والأحجام؛ تصحيف وإجمال في الخطوط والأشكال, واختصار في
الحركات واختزال في الألوان.. كمرحلة أولية قادته إلى تمحيص الشكل واغناء اللون.
وكأن الصوفي في طقوسه قد وصل إلى مرحلة الفيض والتوحد والاشراقات الكبرى؛ فصار
اللون أكثر غنى والشكل أكثر اكتمالا وإحالة على قاموس تراثي أصيل يمتح منه الفنان بعد ما فك طلاسمه وتوصل
إلى تركيبته السرية؛ فاستسلم له الرمز بعد أن أدرك انه بين أيدي أمينة على ارث
السنين!وليس هناك شهادة ولا وصفا للوحات الشرقاوي ابلغ من هذا القول لعلم
من أعلام الفن المعاصر واحد أئمته, انه الفنان بول كلي حيث يقول:( إن الشرقاوي يعزف بالألوان دونما
تكلف ولوحاته تشكل اوركسترا يتحكم فيها كما يريد.وبذلك أعطى الدليل على أن العالم
ليس مبنيا على إيقاع النفس, وإنما هو مبني على تفهم الحياة وطبيعتها)(2)
لم يكن الشرقاوي يتقصى آثار الدلالة
التاريخية أو الحمولة الأسطورية للرمز بقدر ما كان مفتونا باكتشاف ينابيع الجمال
المنصب في رموز حضارة أمته وتشكيل ما يمكن أن يوصف بخرائط دقيقة لمكامن الكنوز
المدفونة في دنيا الرموز؛ تلك الغابة التي يحفل بها الموروث الشعبي المحلي, فاستغلها
أحسن استغلال ووظفها في أعماله توظيفا يكاد يصل إلى مرحلة الكمال.
إن المتأمل لأعمال الشرقاوي ليشعر دائما بتلك اللذة
الفريدة المستمدة من تلك الشفافية التي تطبع أعماله رغم كثافة المادة اللونية. حيث
تنبثق اللمسات اللونية من تحت بعضها باستمرار؛ على شكل طبقات ألوان مسربلة بغلالة
عشق قادمة من حب ابدي للبيئة, وكأنه انبثاق لأزمنة كانت ثاوية في( مونوغرام) الفنان الذي حررها لتوها من
قمقم الرمز لتبوح لنا بأسرار حقب قضتها كعلامة دالة مثقلة بحمولات إيديولوجية
وسوسيولوجية وسيميائية على جلد, أو بساط, أو عمارة..وقد آن الأوان ليحررها الفنان من كل ذلك ويطلق العنان
لحمولة أخرى لتتحر وتنطلق, ألا وهي الحمولة الاستاتيكية, بالنظر إليها كقيمة
جمالية وكمفردة تشكيلية. وهي مهمة لا يمكن أن يقوم بها إلا فنان انبثق ـ مثل تلك
الرموز ـ من نفس البيئة وخبر كنهها ودلالاتها وشغفته حبا. الفنان الحق فقط الذي تتوفر
فيه هذه الشروط, لتستسلم له تلك الرموز, وتروي على إيقاع ضربات فرشته أسرار
الجمال. وقد كانت تلك الصفات متوفرة في الفنان احمد الشرقاوى الذي أعدته
الأقدار لهذه المهمة. فلم يغره التشخيص بمختلف ألوانه, ولم تنل تلك الصيحات الفنية
من وفائه للرمز وشغفه بمساءلته وغوصه في أعماق مكنونات التراث الخطي واللوني
لبلده. فلو كان لنا أن نطلق على هذا الرائد لقبا لكان: ناسك الرمز اوقديس التراث!(الشرقاوي هو كما يقال عنه مصور
تجريدي ما تنازل قط للواقعية الوصفية أو التصويرية ولا للاستشراق التصويري الحسي
وكأنه يعرف أن التصوير عبارة عن كتابة للرمز…)(3)
إن حياة احمد الشرقاوي على قصرها كانت حافلة
بالعطاء وزاخرة بالإنتاج, وغطت معارضه مختلف المناطق قاطعة المحيطات من طوكيو شرقا
إلى نيويورك غربا مرورا بنيودلهي وجنوب إفريقيا والسويد وباريس ومختلف العواصم
الأوربية فضلا عن المغرب والجزائر وتونس وفرنسا.. فكأنه قد نذر تلك الحياة
القصيرة(33سنة) لدراسة العلامات والكشف عن تركيباتها الساحرة في أعمال خالدة
تهافتت عليها المتاحف الغربية؛ تلك الأعمال التي اعتاد النقاد إلى تقسيمها إلى
قسمين قسم ينتمي إلى مرحلة محاورة الخيش (الجوث) في باريس وفارصوفيا مع ما طبع
أعمال تلك الفترة من قتامة في الألوان, ومرحلة الرمز مع اتجاه الألوان نحو
الانفتاح, وهي المرحلة الأغنى. وان كنا نستطيع أن نخرج من قراءة الكاتب المغربي
الكبير ادمند عمران المليح لتجربة الشرقاوي بثلاثة مراحل واضحة
يمكن أن نسميها: مرحلة القنب أو(الجوث)
يقول عنها ادموند عمران
المليح:(لم تكن لوحات الشرقاوي الأولى تتسم برؤية
وقياس أبعاد وأهمية وعمق بحثه, بل كانت مجرد تركيبات وملصقات من الحجم الصغير
يحملها قماش القنب (الجوث) ولم يبد في إتباعه هذه الطريقة التقنية شيء
مبتكر.)(4).المرحلة الثانية مرحلة دراسة الرموز مع تحريم المساس بها. وتبتدئ حسب
ما يفهم من حديث نفس الكاتب من سنة 1958, ( وقد ظل احمد الشرقاوي ولفترة من الزمن يغمره
هذا التعبير ويتتبع ترتيبه لا يبدل فيه ولا يغير فنراه يعيد رسم نفس الأشكال دون
المساس ببنيتها أو يجري أي تعديل فيها فلم يكن ليجرؤ بعد على اقتلاع هذه الرموز من
سياقها أو من تربتها الأصلية)(5). المرحلة الثالثة والأخيرة وهي الأغنى في تجربة الشرقاوييلخصها
ادموند عمران المليح في قوله:(إن ما تناوله احمد الشرقاوي عي أعماله لا ينحصر في
التعبير عن تجربة شخصية بل يتجاوزها كلية بكل الرموز التي تمكن من إدخالها أو
إدماجها في أبحاث متعددة ـ في لوحاته الكبيرة الأخيرة إنما تمثل محاولة إيجاد
أبجدية لغة تشكيلية.ولقد قاده التطور في أبحاثه شيئا فشيئا وساقه بالتدريج إلى
استخدام وتجسيد ذلك في محاولة شخصية للخصائص والقيم الخلاقة التي اكتشف وجودها في
أولى مراحل الفن الإسلامي إذ جعلها حالة.)(6). والأهم في تجربة الفنان الذي لم يكن فنه نتيجة
اختيارات آنية أملتها عليه نزعات الحركات الفنية المعاصرة التي كانت تجتاح أوربا
وهو في خضمها كطالب قي باريس أو بولونيا كما يدعي البعض, بل ترجع لطفولته الأولى
في مدينة أبي الجعد الزاخر بالتراث بشقيه الديني والشعبي؛ حيث تمكنت تلك الموروثات
من ذاكرته من وشم ورموز محلية مدونة على الأجساد والحلي والزرابي والفخار
والعمائر, وقيم دينية متمكنة من نفسه ذات صبغة صوفية مرتبطة بالأضرحة والطرق
والزوايا..جذور تتغدى على الهوية الوطنية لتسمح للفنان بالانغماس في بحر التجريد
دون الخوف من الاستلاب أو التبعية. صفات سمحت للشرقاوي أن يكون واضع حجر الأساس
للتشكيل المغربي المعاصر, والأب لروحي لأجيال من الفتانين المقتفين أثره في البحث
والتنقيب في مكنونات التراث.
ولا أجد خير ما اختم به
من هذه الكلمات لناقد والفنان المغربي محمد خصيف الذي
يقول:(حرام علينا أن ننسى تجربة المرحوم الشرقاوي وما عاناه هذا المسكين
الذي تحاولون طمس اسمه برمل. إن التاريخ لا ينسى, ومهما كان الحال فان هذا الفنان يبقى رائد الفن الحديث
بالمغرب, ويتقاسم هذه الريادة المرحوم الغرباوي.)(7)
*هوامش:
(1)ـ مقال منشور بمجلة فنون العراقية سنة 1981 ص 38,
بمناسبة مرور 14سنة على رحيل الفنان تحت عنوان:المعاني
الممزوجة بالرمز
وتأصيل الماضي في صلب
المعاصرة
(2)ـ نفس المرجع السابق
(3)ـ الكاتب المغربي الكبير عبد الكبير
الخطيبي.كتاب:(تصوير الفنان احمد الشرقاوي).
صادر عن مطلعة شوف بالدار البيضاء, ص:48
(4) ـ الكاتب المغربي الكبير ادموند عمران المليح؛ نفس
الكتاب السابق, ص:28
(5) ـ نفس المرجع, ص:33
(6) ـ المرجع نفسه, ص:35
(7) ـ المغرب في ساو باولو. الملحق الثقافي لجريدة العلم
بتاريخ:5/12/1987 بقلم الناقد والفنان المغربي محمد خصيف
بقلم: محمد الزبيري




0 التعليقات:
إرسال تعليق