الفن الملتزم
والتنشئة السياسية
كتبهامحمد الزبيري ، في 4 نوفمبر 2006
نشرت لي اليوم
السبت4/11/2006 جريدة ( العرب الأسبوعي) اللندنية هذا المقال مصحوبا بهذه الصورة
لإحدى لوحاتي
قضية التنشئة السياسية
مسألة قديمة قدم التجمعات البشرية, وابسط صورها القديمة الولاء للعشيرة أو
القبيلة.وكلما تطور الإنسان إلا وتقدمت منا هج تكوين المواطن الصالح الذي يشكل
نواة الدولة السليمة القوية المتجانسة بحكم منظومة القيم التي لقنتها لمواطنيها
الذين آمنوا بتلك القيم وتمثلوها في حياتهم, فكفل ذلك للدول الاستمرارية والوقوف
أمام الأخطار؛ فلا غرابة أن نرى بعض الدارسين يرجعون ازدهار الدول وتقدمها إلى
التنشئة السياسية السليمة التي تغدي الروح الوطنية والشعور بالقومية؛ وعند خفوت
هذا الوازع تندثر تلك الأمم.
فالمقصود بالتنشئة
السياسية إذن هو مجموعة القيم السياسية والمعايير المرافقة المختلفة التي تعتنقها
وتعتقد بها امة ما وتلقنها لنشئها لتطبع الشخصية السياسية للشعب بصفة دائمة؛ ويتم
ذلك من خلال قناتين رئيسيتين: قناة الأسرة وقناة التعليم.
إن من ابرز مظاهر فشل
التنشئة العربية السياسية الحديثة مشاعر الكراهية الملموسة عند جل الشباب العربي
لكل الإيديولوجيات والأطروحات الرسمية التي تعمل المنظومة التعليمية العربية على
زراعتها في النشء الذي ما أن ينضج حتى يكتشف زيف ما تلقاه وبعد ذلك عن الواقع
المعاش الذي يصدمه بحقائق مخالفة لما سبق أن لقنوه له, فتهتز ثقته في منظومة القيم
ككل, ويترجم هذا الإحباط بردود فعل ليس ابسطها الميل إلى التخريب والتدمير والعبث
بكل ما تطاله يده من أشياء لها علاقة بالمرافق العامة الممثلة في نظره لهذه القيم
المزيفة المرتبطة بالنظام العربي الذي يعتقد هذا الطفل التلميذ أو الطالب العربي
أن هم هذا النظام هو تثبيت نفسه في مخيلة وذاكرة مواطنيه بالتركيز على أمجاد
الأنظمة وتهميش ادوار الشعوب. كما يصطدم النشىء بحقائق أخطرها أن ما سبق أن آمن به
واطمأن إليه من حقوقه في المواطنة والحرية في وطن يفخر بالانتماء إليه يكفل له
حرية إبداء الرأي والعدل والمساواة والعيش الكريم…كل ذلك لا يعدو أن يكون كلاما
مغلفا برومانسية لا وجود لها على ارض الواقع, ولا تكفل تلك الحقوق إلا للأقوياء
ولبعض طبقات المجتمع؛ أما هو فمواطن من الدرجة الأخيرة.ولا أجد خير ما استشهد به
في هذا الباب من هذا الكلام الجريء لسمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في مقدمة
كتابه الصادر مؤخرا تحت عنوان: (رؤيتي).حيث يقول بصراحته المعهودة ما نصه:( وأزمة
العرب اليوم ليست أزمة مال أو رجال أو أخلاق أو أرض أو موارد فكل هذا موجود والحمد
لله ومعه السوق الاستهلاكية الكبيرة وإنما أزمة قيادة وأزمة إدارة وأزمة أنانية
مستحكمة، نَعَم إنها الأزمة الطبيعية التي يفرزها إعلاء حب كراسي الحكم على حب
الشعب وتقديم مصلحة الفرد ومصيره على مصير الوطن ومصلحته ووضع مصالح الجماعات
والشلل المحيطة بالقائد فوق مصالح الناس، إنها تسخير الشعب لخدمة الحكومة بدلا من
الوضع الطبيعي المعاكس.)
إن من بين الملاحظات
السلبية على مناهج التنشئة السياسية العربية المعاصرة بثها في النشء روح التمسك
بالدولة القطرية بمفهومها الضيق وإغفالها أو تغافلها لأهم عنصر وهو ترسيخ الوعي
بمبدأ القومية العربية والوحدة الشاملة. وهو خطا جسيم ترتبت عنه سلبيات تشكل خطرا
على مستقبل الوجود العربي, بدأنا نرى تمظهراته في فتور همة الشباب العربي في السعي
إلى الوحدة العربية, بل أصبح بعضهم يرى ذلك مجرد حلم وأفكار طوباوية غير قابلة
للتطبيق على ارض الواقع. وقد عمق هذا الشعور لدينا إعلام غربي مضاد موجه إلى خصوصا
إلى نشئنا, محوره التسليم بدور الفرد المعزول عن جماعته التي لا تعنيه كثيرا ولا
يكون لها إلا دور هامشي تكميلي. فإذا كانت التنشئة السياسية العربية الرسمية
المعاصرة تركز على أولوية الولاء للقطرية المقرونة بالشخصية الحاكمة عوض إعطاء
الأولوية للولاء للوحدة والقومية فان التنشئة السياسية القادمة من الغرب عبر مختلف
القنوات تعمل جاهدة على عزل الفرد العربي عن أمته ومجتمعه وغرس الأنانية السلبية
في أعماقه, والقضاء على أي اثر في نفسه للروح الجماعية أو الشعور بالقومية.
وإذا أردنا أن نعطي
مثالا واضحا لدور التنشئة السياسية وانعكاسها على أنماط الفكر والفنالعربي
بشكل ايجابي, لنا في الفن العربي الملتزم أوضح صورة واصدق دليل.
واقصد هنا الالتزام في الفن التشكيلي تحديدا.
لكن حتى تكون المقاربة
صحيحة لنحاول تعريف الفن الملتزم أولا وتحديد مفهومه؛
كثيرة هي تعريفات هذا الفن,
فهو عند البعض الابتعاد عن المشاهد الخالعة التي تخدش الحياء وتثير الغرائز, وعند
البعض الآخر هو الفن المقتصر على معالجة
المواضيع المصيرية والمشاكل الحقيقية التي يواجهها مجتمع ما أو امة ما. بينما
يعطيه الآخرون تعريفا دينيا ويصفونه بأنه الفن الذي يلتزم بمنهج
الإسلام ولا يخرج عن تعالمه وأخلاقه (الفن الهادف) ـ.ولو أن مصطلح
ومفهوم الفن الملتزم أقدم من ذلك ـ(
1).والحقيقة أن الفن الملتزم اشمل وأوسع من الحيز
الضيق الذي يحشرونه فيه, ذلك أن مهمة الفنان الملتزم تتلخص في كونه لسان
مجتمعه,وفي نفس الآن العين اللاقطة لكل تمظهرات الخير والشر فيه, ليثني على كل خبر
ويثبت قيمه, وينتقد كل زيغ إلى الشر ويحذر منه.وقد اشترط بعضهم فيالفن الملتزم ألا يكون مصدر عيش
صاحبه حتى لا يضعه تحت رحمة مؤسسات وجهات تتحكم فيه وتأثر عليه.
لكن لماذا الحديث عن
الالتزام في الفن التشكيلي بالذات في ضوء
التنشئة السياسية؟ والجواب بسيط, لأن الفن التشكيلي هو الأحق بان
يوصف بالالتزام وأجدر أن يكون ملتزما لأنه الوحيد بين الفنون
كلها الذي سجل حياة الإنسان مند بدايتها وعبر كل المراحل والأطوار من الكهوف
والمغاور إلى القصور والعمائر, وشكل جزءا من تلك الحياة؛ ولما كان الفن مرتبطا بالمشهد السياسي
والثقافي للمجتمع والأمة التي ينتمي إليهاالفنان,
كان للتنشئة السياسية دورها الفعال في بلورة فنان ملتزم بقضايا أمته, وفن منبثق من
هموم هذه الأمة وتطلعاتها, يعالج مختلف قضاياها بصدق وجرأة مقرونة بالسلوك والرأي
فيما يتعلق بمنظومة القيم الحاكمة للمجتمع الذي ينتمي إليه هذاالفنان,
وعليها يترتب الموقف السياسي الذي يطبع حياة الفرد والجماعة.
وبعد تبيين العلاقة
الجدلية التي تربط الفن الملتزم بالتنشئة السياسية نعود
إلى موضوعنا لنقول انه قد كان للتنشئة السياسية العربية القديمة نسبيا دور فعال في
بروز فن عربي ملتزم, حمل على عاتقه هموم الأمة وتطلعها إلى التحرر والتوحد
والتقدم, واحتوى قضاياها الكبرى التي حاورها بنجاح, كنتيجة لتنشئة سياسية موفقة
كانت مرتكزة على خطاب وحدوي ساد آنذاك, فكانت تلك الطفرة التشكيلية التي شهدها
الوطن العربي في الستينات والسبعينات؛ وأعطت فنا عربيا ملتزما بقضايا أمته متجانسا
متين البنيان, معتمدا على المعايشة اليومية لهموم الوطن ككل, قوة الريشة فيه توازي
قوة الرصاصة؛ يرصد معانات هذا الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج, و ويطرح أسئلة
مصيرية ملحة, ويجيب عليها في شموليتها بمفردات تشكيلية تراثية معتدة بهويتها
العربية, في إطار جمالي ينطلق من المحلية ويعيش العاليمة.
لقد كانت مرجعية الفن الملتزم بالأساس هي القضية
العربية الأولى التي وقع حولها إجماع وانسجام ثقافي وفني, فانعكس ذلك إيجابا على
كل أصناف الفنون
الأخرى ولو لفترة محدودة؛ فكان ما يمكن أن يسمى بالأعمال الفنية
السياسية التي طعمت الشعور الوطني بجرعة اذكت فيه روح النضال والمقاومة ضد الهيمنة
الصهيونية والإمبريالية. لكن بعد ذلك حدث ما يشبه الردة عندما نجح الصهاينة والغرب
من ورائهم في تقويض مناهج التنشئة السياسية السليمة, وتعويضها بأخرى أدت إلى نشر
فن زائف أجوف, موجه خصوصا لنشئنا, رأس الحربة فيه الإعلام بفضائياته الهدامة التي
غزت مجالنا؛ وكان آخر وبائها ما سمي بتلفزيون الواقع. وهكذا فرغت القضية من
محتواها واستطاعت السياسة والدهاء والمكر الصهيوني الغربي إغراقنا في بحر( الأنا),
فبدأ ينسلخ الهم الفلسطيني عن الجسد العربي شيئا فشيئا ليخرج من البؤرة إلى الهامش
لضعف تلك التنشئة
السياسية المعتمدة حاليا, والتي اتخذت منحى آخر غير الخط القومي الذي كان متبع منذ
مطلع الخمسينات؛ نتيجة عوامل داخلية وخارجية, فبدأ يخفت نور هذاالفن الملتزم الناجح ابتداء من مطلع
الثمانينات ـ باستثناء قلة قليلة لازالت تسبح ضد التيار ـ ولم يعد فنها يستقطب تلك
الجماهير الواسعة, ولم يعد يقابل بالتعظيم والإجلال, والعناق والالتحام كما كان
الحال في الماضي, بل أصبح في أحسن الأحوال مجرد تذكار يثير أشجانا وحنينا لزمن
ولى.. وكان ذلك نتيجة فشل التنشئة السياسية العربية الحديثة.
إن الخطر الذي يهدد الفن الملتزم ويهدد الفكر الجاد والفن الخلاق وبالتالي يهدد
مشروع الأمة ووعيها بذاتها, لا يكمن فقط في محاربة هذا الفن اقتصاديا والتضييق على
مبدعيه, ولكن الخطورة الكبرى تكمن في تسطيح فكر شبابنا وتجهيله وصرفه عن قضايا
وطنه, وإغرائه بقنوات هز البطن, وتذويبه في ثقافة العولمة بدل التمسك بقيم أمته؛
وتلك مرحلة أخرى من مراحل الهجمة الإمبريالية على الوطن العربي. فبعد أن كسبوا
المعركة ضد الفنالعربي الملتزم,
وأعاقوا انتشاره خارج الوطن لتعريف الآخر بقضايانا العادلة, وتطلعاتنا المشروعة,
شرعوا في القضاء عليه داخليا لإعاقته وثنيه عن أداء وظيفته التربوية, وتبليغ
رسالته التوعوية, ومنعه من تثبيت قيم النضال والممانعة في نفوس الأجيال الصاعدة,
وحثهم على التمسك بالخيار القومي:الحرية والوحدة.
إن ما يدعو إلى التفاؤل
هو أن هذه الأمة التي أجبرتها الظروف التاريخية في مختلف المراحل على محاربة أقوى
الدول واعتا الأمم, سواء في فترات انكسارها وضعفها ووهنها, أو في أوج قوتها
وازدهارها, ورغم ذلك لم تزدها تلك المحن إلا وحدة ولو معنوية, وتمسكا بالفكر
الوحدوي القومي الذي لم يمت ولم يتلاشى حتى وان مرت عليه أحقاب أصبح فيها مجرد فكرة
طوباوية, أو طرفة من المثل العليا, لكنه يبقى حيا في وجدان وعقل الإنسان العربي
ولو انه مرجأ إلى حين, بفعل التنشئة السياسية الخاطئة, والظروف المعادية المحيطة؛
لكنه مطب مشروع تماما ومبرر, وله أسس ودعائم قوية كفيلة بإبقائه حيا إلى أن يحين
تطبيقه متى خلصت النيات واتحدت الإرادات.
بقلم: محمد الزبيري




0 التعليقات:
إرسال تعليق