كتبهامحمد الزبيري ، في 26 مارس 2006
إليك وإلى كل الإخوة هذه المحاولةالمرتجلة
لقراءة انطباعية أولية للوحتك الجميلة التي أتحفتنا بها وأطلعتنا مشكوراعلى مراحل
إبداعها.
إنني أتذكر بشيء من الحنين والأسف معا تلك
الطفرة التي عرفهاالتشكيل العربي في نهاية الستينات وبداية السبعينات, من خلال بحث
فناني تلك الفترةعلى امتداد الوطن العربي وخصوصا في العراق(جماعة البعد الواحد)
التي قال عنهارائدها الفنان العظيم شاكر حسن آل سعيد :((إذن فان الدور الذي سنلعبه
هو وضع اللبنات الأولى لمدرسة معاصرة فيالفن تعتمد على استلهام الحرف.))أذكر تلك
النهضة بشئ من الحنين, لأنها كانت فعلانهضة على صعيد الفن التشكيلي بوأت الفن
العربي مكانته على الصعيد العالمي.. لكن معكامل الأسف من أتى بعد هؤلاء الرواد وقف
عند ما انتهوا إليه وبدأ يجتر تجاربهمويكرر أنماطهم دون أن يملك القدرة والجرأة
على التجاوز أو الإضافة. ففقدت التجربةالرائدة حيويتها وألقها, وحدث ما يشبه الردة.مع
العلم أن المتلقي المعاصر عبر جميعأنحاء العالم لايحترم ولا يقدر إلا الفن الذي له
جذور تابثة , ولا يعترف إلا بالفنانالمعتز بانتمائه الى تراثه والمتمثل جيدا
لمضامينه التي يغوص في أعماقها ويعودبالنواة واللب, ليوظف ذلك المكنون في أعمال
تقف شامخة على قاعدة صلبة مرجعها التراث,مثل شجرة جذورها ضاربة في أعماق الأصالة
وأغصانها تحيا حاضرها بكل اقتدار وندية. خصوصا ونحن نواجه خطر العولمة وتنميط الثقافة
والفن.
بعد هذه المقدمة لعل هناكمن يتساءل: ما
علاقة هذا بلوحة الأخ الكريم نواف الأرملي؟ أقول إن هذه اللوحةبالذات يبدو لي جليا
أنها تنوء بالحمل الذي تحدثنا عنه لأنه من الواضح من خلالها أنلدى الفنان هذا
الهاجس..
إنني سعيد جدا بوضوح الرؤية لديك يا أخ
نواف, وسعيدأكثر بقدرتك على خلق هذا التجاوب والتناغم بين الأشكال المجردة
والمشخصة, وسلاسةوسهولة انتقالك من هذه الى تلك, دون أي نشوز أو إحداث أي شعور
بالصدمة أو النفورلدى المتلقي, وهذا شيء لايتأتى للجميع تحقيقه بهذه البساطة ودون
تكلف, والأجمل منكل هذا أن يكون لدينا هذا الهم الذي يؤرقنا جميعا وهو التنقيب
والبحث في تراثناالغني بجميع مكوناته, لأجل الوصول الى عمل فني عربي أصيل لايتنكر
لماضيه ولا يتخلفعن ركب الحضارة. وهذا ما أراك ـ ولله الحمد ـ واع به تمام الوعي,
من خلال لوحتكالجميلة والعانية التي وفقت فيها الى حد ما في خلق حوار بين ماضي
الأمة وحاضرها منخلال توظيفك لهذه المنظومة من الخطوط العريقة سوماري وهيروغليفي
وعربي وفارسيالمثقلة بالحمولات والمعاني التاريخية والحضارية.
والملاحظة البارزة هي هيمنةالحرف العربي
على الحروف قاطبة وعلى اللوحة ككل, وكأنك تفعل دلك مصداقا لقولهتعالى:((مصدقا لما
بين يديه منالكتاب ومهيمنا عليه)) صدق الله العظيم. ولو كان لي أن أطلق اسما على
هذه اللوحةلكان هذه الآية الكريمة.ومما زاد هذا الحرف جمالا وجلالا كتابته بالخط
ألثلثيومصاحبة النقطة له, تلك النقطة التي جعلها الخطاط المنكوب الوزير ابن مقلة
مقياساوميزانا لكل الحروف, وهنا أذكر قول الحلاج:(علم كل شيء في القرآن, وعلم
القرآن فيالحروف التي في أول السور, وعلم الحروف في لام ألف, وعلم لام ألف في
الألف, وعلمالألف في النقطة.)) وقد انتهى تكوينك بنقطة أسفل الحرف العربي..
إنني وأنا فيحالة اليأس أرى خلفية تلك
اللوحة التي شاء الفنان أن يجعل ألوانها من سلسلة الألوانالترابية عبارة عن صحراء
قاحلة شاسعة, تبتلع المجد العربي الغابر, وتذر عليه رمادالنسيان. ـ (وقد قلت سابقا
إن خلفيات لوحات الفنان نواف الأرملي تكفي وحدها لتكونلوحة تشكيلية ممتعة)ـ وما
الحروف المسمارية في أعلى يمين اللوحة ألا بمثابة أطلالفعل فيها الزمان فعله
وأعمدة مترهلة لصروح ماضينا المجيد, وبوابات مدننا التي كانتفي يوم من الأيام مدن
عز وفخر وشموخ, تلك مدينة البثراء أو بابل أو آشور أو غرناطةأو قرطبة أوحتى بغداد
اليوم..وما شبح الحصان الجامح أمام هذا الحرف العربي ألا بكاءعلى الأطلال, أنني
أكاد أسمع صهيله بل عواءه وهو وسط هذه الصحراء يبكي مجده الضائع. إنه باختصار يمثل الوضع العربي الراهن: حصان بدون فارس. أما الحصان الآخر
المطل منجهة اليسار والناظر الى هذا الحرف المقدس النازل من السماء فهو بنظرته هذه
يتساءلعن سر هذه الكبوة التي طالت…
وبالمقابل في حالة تفاؤلي تبدو لي تلك
الخلفيةالرائعة إلتي تتماها فيها الألوان الترابية والخضراء, بمثابة واحات غناء
تزدهيبمياهها ونخيلها. وما تلك الحروف السومارية والهيروغليفية إلا أركان وأسطح
لقصورومساكن تعلن عن رغد عيش أهلها…أما الحرف العربي المهيمن الذي قد يكون الألف
رمزالتوحيد, وقد يكون اللام رمز الوصل , وقد يكون الكاف رمز الكون, فليس من قبيل الصدفةأن
يخرج الفنان عن سلسلة الألوان التي اختار أن ينفذ بها لوحته ويخص هذا الحرف
وحدهبهذا اللون الذي هو من تدرجات الأزرق, لون اللانهاية, لون الصفاء , لون
السماءالأبدي. ويكفي أن نقول لون الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي. وما دمنا
نتحدث فيإطار مرجعية تاريخية تراثية, وما دامت الهيروغليفية حاضرة لتحيلنا بدورها
علىمرجعية فرعونية ,هنا لايفوتني أن أشير الى أن اللون الأزرق الذي اختاره الفنان
كلونللحرف العربي هو اللون الذي اختاره الفراعنة لتلوين الوجوه لإضفاء صفة
السمووالقدسية على أصحابها. ولعل الفنان وهو ينقب في الرموز والكتابات القديمة قد
تعمدهذا الجانب. بل إن الملاحظ يرى أن هذا الحرف وحده هو الذي جسمه الفنان وجعل له
ظلاينعكس على تلك الخلفية الجميلة التي تتلقفه بلهفة وكأنه الغيث أو هبة ربانية
أونفحةقدسية نازلة لتوها من السماء العليا. ففي الوقت الذي عوم فيه كل الحروف
الأخرى فيغلالة سديمية محببة في الخلفية, أصبغ على الحرف العربي طابع البروز وجعله
مركزاللوحة ونقطة الجذب فيها, وكأنه الناموس الأكبر النازل الى الأرض التي قد
يكونالفنان رمز إليها بهذا الشكل المنكسر أسفل اللوحة الظمآن لمثل هذا المد
الربان((وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت)) صدق الله العظيم.
وكأن هذاالفرس الصاهل أمام الحرف المقدس يقول لنا:لا ملاذ ولا ملجأ لكم إن أردتم
أنتستعيدوا مجدكم سوى طريق واحد هو التمسك بهذا الحرف والقيم المتصلة به, وإلا
تواريتمفي خلفية الحضارة كما توارت تلك الحروف في مؤخرة اللوحة.
إن هذه الخلفية الجميلةاللامتناهية تجعلنا
نحس إحساسا عميقا بالزمن, وكأننا نطوي المراحل والأحقاب لنصلالى هذا الحرف المقدس
النازل من السماء بجلال وكبرياء, وكأنه الأمانة العظيمة التيعرضها الله على السماء
والأرض..إن مايو حي بتلك الحركة النازلة تلك النقط المرافقةللحرف العربي التي
بتتابعها تشعرنا بالحركة على غرار أسلوب المدرسة المستقبلية. وإنمايزيد من جلال
وعظمة الحرف (الأمانة) ضآلة الفرس أمامه. فرغم أن الفرس يمثل غالباالقوة والكبرياء
والشموخ إلا أنه ضئيل أمام هذا الحرف (الأمانة)
إذا نظرنا الىاللوحة وهي بعد تخطيطا
بالفحم كما تفضل الأخ نواف واطلعنا عليها مشكورا نلاحظ أنبناءها بناء كلاسيكي
معروف رغم أن السمة التجريدية هي الغالبة عليها. لأن عناصرهاتتآلف فيما بينها
وتنبني على شكل حرف( L ) متجها إلى اليسار, وهو بناء مألوف في لوحاتكبار
الفنانين الكلاسيكيين, وكأن الفنان نواف قد فطن الى أن هذا النمط لا يليق
ولايتماشى مع اللوحة التجريدية التراثية التي هو بصددها ولا يتلاءم مع عناصرها
العربيةالمعتمدة على أسس الجمالية الإسلامية, فأعاد تشكيلها وتطعيمها بإضافة عناصر
أخرىأدرجتها في إطار المنظور الروحي الإسلامي اللولبي. إتباعا للخط الحلزوني الذي
كانقد اكتشفه الكسندر بابا دوبولو في الفنون العربية والإسلامية (المنمنمات).
لأننا لورسمنا خطا حلزونيا ابتداء من أعلى يمين اللوحة حيث توجد تلك الحروف
المسماريةونزلنا مع حركة هذا الحرف الأزرق الذي هو أقرب الراء, ثم الى الحروف الهيروغليفيةالموجودة
في الأسفل, ثم تابعنا خطنا الحلزوني الى أعلى اليسار حيث الحروفالهيروغليفيةأيضا,
ثم انحرفنا يمينا الى قمة الحرف العربي المهيمن الذي هو الكاف علىما أظن, ونزلنا
معه حيث تقودنا النقط الى الخط الرمادي المنكسر, ثم التففنا الىالأعلى يمينا,
فإننا بذلك نكون قد جمعنا كل عناصر اللوحة المهمة في خط حلزوني ينتهيعند الحصان
الجامح. ولا أعتقد أن هذا من قبيل الصدفة مع ما لذلك من معاني ورموزتصب كلها في
خانة النهوض والقوة والصمود والتشبث بهذا الحرف الرمز. مع الإشارة الىأن الحصان
رمز غزير الدلالة ومتعدد المعاني, فهو في الأساطير القديمة يعني الزمن, ويعني الموت, ويعني الماء.. وكلها معاني قد تكون حاضرة هنا وتجد مكانها في
هذاالعمل الفني القيم, فهذا البعد الشمولي هو ما يعطي لهذه اللوحة قيمتهاالحقيقة.
يقول الفنان شاكر حسن آل سعيد :((إن البحث عن
الحقيقة عبر الحرف كشكلومعنى ممارسة لحرية الفكر الإنساني المعاصر, للوصول الى
اليقين الروحي والمادي معا, ومن خلال قيمة هي في نفس الوقت ذاتية وكونية, وحضور ية وغيبية, )) جماعة
البعدالواحد, بغداد 1971.
أرجو أن أكون قد وفقت في الاقتراب من
فلسفة الفنان الكامنةفي لوحته التي تبقى دائما مفتوحة على كل القراءات والتأويلات,
وتلك سيمة الأعمالالفنية الناجحة
بقلم:محمد الزبيري




0 التعليقات:
إرسال تعليق