إمارة الشارقة قلعة الفنون والثقافة العربية والإسلامية مهرجان
الفنون الإسلامية نموذجا
كتبهامحمد الزبيري ، في 3 يناير 2012
إمارة الشارقة قلعة الفنون والثقافة
العربية والإسلامية
مهرجان الفنون الإسلامية نموذجا
إنما الأمم الفنون ما بقيت..
لا شك أن الفنون كانت وستضل دائما إحدى
الدعامات التي تقوم عليها حضارت الأمم وشخصيتها، رغم ما يتردد بين الحين والآخر من
أوهام عن انتهاء دور الفنون، واستنفادها لأسباب وجودها، ومضي عصر الفن.. إلى غير
ذلك من الترهات. بينما الشعوب والأمم كانت ولا زالت تلود وتحتمي بفنونها للحفاظ
على هويتها ووجودها؛ خصوصا في هذا العصر الذي أصبحت فيه آليات العولمة تعمل جاهدة
على تنميط الحضارات المخالفة، بل ووضع الهويات المغايرة أمام خياران لا ثالث لهما:
الإنصهار في بوثقة الحضارة الغربية المهيمنة والدوران في فلكها، أو مواجهة
الإندثار الممنهج.
وقد علمنا التاريخ أن الأمم تبقى وتستمر
وتزدهر، ببقاء واستمرار وازدهار فنونها، وتنتهي وتضمحل وتنقرض، بانتهاء واضمحلال
وانقراض فنونها. ولنا في الدرسين: اليوناني الروماني، والقرطاجي الروماني أوضح
مثال. فعندما استعمر الرومان اليونان قديما، أعجبوا بفنونهم فلم يستهدفوها؛ فكان
أن استمرت تلك الفنون في ازدهارها وإشعاعها، وامتد تأثيرها حتى وصل إلى قلب روما
نفسها؛ حتى قال قائلهم: إذا كان الرومان قد استعمروا اليونان عسكريا، فإن اليونان
قد استعمروا الرومان فنيا! فكانت
النتيجة أن بقيت الأمة اليونانية حية، واستمر الشعب اليوناني بفنونه وحضارته إلى
يوم الناس هذا. وبالمقابل، وغير بعيد عن المنطقة، عندما انتهت أشواط الحروب
البونيقية بانتصار الرومان على القرطاجيين، وكان هدف الرومان استئصال واجتثات
الوجود القرطاجي من المنطقة؛ استهدفوهم في فنونهم وثقافتهم. فماذا كانت النتيجة؟
كانت هي انتهاء وانقراض الوجود القرطاجي بانتهاء وانقراض فنون هذا الشعب وثقافته!
وكم يطيب لي دائما في هذا الباب أن أستعير من الشاعر الكبير الراحل احمد شوقي بيته
الشعري الشهير الذي يجري على ألسنة الجميع دائما والذي يقول:
إنما الأمـــم الأخــلاق ما
بقيــــت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهــبوا
لأقول: إنما الأمم الفنون ما
بقيت فإن هموا ذهبت فنونهم ذهبوا
حقيقة أدركها الإخوة في إمارة الشارقة مند
وقت غير قصير، فكانت هذا العناية الفائقة بالفن والثقافة عموما.إذ لم يكن تبنيهم
لقضية الفنون والثقافة العربية والإسلامية وليد الصدفة، أو فقط مراعاة للدور الهام
الذي تلعبه تلك الفنون في الرقي بالمجتمعات ورفع رتبتها في سلم الحضارة الإنسانية؛
ولكن وعيا بالدور الخطير لتلك الفنون في الحفاظ على هوية وكينونة ووجود المجتمعات،
ودعم تماسكها، وتقوية مناعتها ومقاومتها لشتى عوامل الاستلاب والزوال… من هذا
المنطلق بالذات كان تبني دائرة الثقافة والإعلام بإمارة الشارقة ـ مشكورة ـ لقضية
الثقافة والفنون العربية والإسلامية. سواء الأصيلة منها أو الحديثة والمعاصرة؛
وكانت مجهوداتهم الجبارة للحفاظ على تلك الفنون العريقة، والعمل في نفس الوقت على
تطويرها وجعلها تساير الركب الفني العالمي. وانطلاقا من تلك القناعات الراسخة،
وسعيا لتحقيق تلك الأهداف النبيلة، أصبحت إمارة الشارقة الرائدة في هذا المجال،
قبلة للعديد من المبادرات الفنية والثقافية الجادة والخلاقة؛ المتسمة بالإستمرارية
والمتابرة، بفضل احتضانها من طرف إمارة الشارقة ورعايتها من أعلى مستوى. حيث بدأت
النتائج الإيجابية لهذا الفعل الثقافي المشكور تلوح في الأفق على أكثر من صعيد. من
تلك المبادرات الرائدة: مسابقة جائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي السنوية، التي
تعتبر الوحيدة المتخصصة على صعيد العالم العربي. فقد باتت مناسبة مشهودة للتنافس
والتباري، واللقاء والتلاقح بين ذوي الاختصاص، من النقاد والتشكيليين العرب من
مختلف أرجاء المعمور. حيث تتوخى الدفع بعجلة النقد التشكيلي العربي إلى الأمام،
والرقي بالمنتوج الفني عربيا، سواء على صعيد المنجز التشكيلي أو على مستوى التلقي
الجمالي…
مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية:
الإستمرارية الناجحة دليل على الوعي العميق والإرادة
القوية
كذلك من بين التظاهرات الفنية الرائدة
التي أصبحت تقليدا فنيا محمودا يحسب للشارقة، مهرجان الفنون الإسلامية الذي أطفأ
هذه السنة شمعته الرابعة عشرة. فقد أضحى بصدق تقليدا فنيا محمودا، كمناسبة عظيمة،
وفرصة كبيرة لإحياء وتطوير فنوننا العريقة، والحث على التنقيب في مكنوناتها،
وتشجيع الباحثين على سبر أغوارها، وإعادة الحياة لأروقتها. وقد شاهدت ذاك النجاح بأم عيني، عندما أسعدني الحظ
هذه السنة (2011)، فكنت من بين المدعوين للمشاركة في الندوة الدولية التداولية، المقامة
في إطار فعاليات هذا المهرجان الذي افتتحه يوم: 7/12/2011 بمتحف الشارقة، سمو الشيخ سلطان بن محمد بن سلطان القاسمي، ولي عهد
ونائب حاكم الشارقة، تحت رعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي
عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة؛ ليستمر شهرا كاملا. مشتملا على عدة أنشطة فنية غنية وراقية، تتراوح ما بين
المعارض، والمحاضرات، والندوات، والأوراش الفنية العديدة. بمشاركة نخبة من أجود
الفنانين والباجثينن من مختلف أرجاء المعمور. حيث قدم متحف الشارقة لوحده وجبة
فنية دسمة من الفن الراقي، يسيل لها لعاب الفنانين والنقاد والهواة والمهتمين! 740
عملا فنيا تراوح مابين مقتنيات حاكم الإمارة، ومعارض فردية وجماعية لعدد من
الفنانين، 105 فعالية فنية مختلفة.. منها على سبيل المثال لا الحصر: جناح تحت
عنوان:(رحلة إلى بلاد فارس) ضم 64 لوحة ، وجناح ضم 142 لوحة لنماذج من روائع الفن الإستشراقي،
الذي سجل مختلف الطرز المعمارية والزخرفية المصرية الرائعة، المطبوعة بفرنسا عن
فترة القرنين السابع عشر والثامن عشر، من الكتاب الشهير: (الفنون العربية في
القاهرة من خلال آثارها)…كذلك من الاجنحة العديدة المثيرة للإهتمام جناح:(منمنمات
من راجستان) الذي يبرز الأسلوب المغولي في فن المنمنمات المجسدة للطبيعة،
والفروسية، والأساطير، وأنماط الحياة.. كما سرقت الأضواء الأعمال الإيرانية في فن
المنمنمات الحديثة، خصوصا أعمال الفنان المتميز رضا بدر سما الذي أقام ورشة رسم
مباشر عند افتتاح المهرجان. فقد أتار اهتمام الكثيرين بأسلوبه الدقيق، وألوانه
الساحرة، وخطوطه الأنيقة.. جناح آخر كان لافتا للانتباه، هو جناح الوثائق
العثمانية التي في حوزة العارض الدكتور جهاد بنوت من لبنان؛22 وثيقة بخطوط
عربية أصيلة وقيمة، تتراوح ما بين عقود رسمية حكومية، وأخرى تتعلق بمعاملات شخصية تنتمي
للفترة الممتدة مابين: 1516 و:1918م. أما المنجز التشكيلي الآخر فقد كان حاضرا من
خلال أعمال العديد من الفنانين، كالتشكيلي المصري محمد أبو النجا الذي أبحر بنا في
يم أسرار جناحه:(ورق الأسرار) الذي يصنعه بنفسه؛ والفنان معتز نصر الذي أحالتنا
أعماله على عالم المفاهيمية بواسطة الفيديو الذي يجسد فيه رقصة الدراويش ذات
الطقوس الصوفية… هذا بالإضافة إلى فضاءات أخرى عديدة تراوحت ما بين الخط والزخرفة
والخزف، نالت بعضها جوائز تقديرية ونقدية قيمة.
الندوة الدولية الموازية:
المنمنمات الإسلامية من الواسطي إلى بهزاد
أما الندوة الدولية التخصصية المستمرة على
مدى يومين، والتي استغرقت وقائعها ست جلسات، فقد شارك فيها أحد عشر باحثا من مختلف
البلدان العربية. حيث تناولت محاور سلطت الضوء على عدة جوانب متعلقة بالأبعاد
التاريخية والجمالية والإجتماعية لفن المنمنمات وفلسفته. مع وقفات متأنية عند
إسهامات كل من الواسطي وبهزاد، ودورهما في الرقي بهذا الفن الرفيع. فبعد أن تم
افتتاح أعمال الندوة بكلمة السيد: أ.عبد الله العويس رئيس دائرة الثقافة والإعلام،
بحضور السيد: أ.هشام المظلوم مدير إدارة الفنون، وعدد من الشخصيات، بدأت أشغال
الجلسة الأولى التي ترأسها الدكتور عبد الكريم السيد من فلسطين، حيث تناولت ورقة
أ. الدكتور النور حمد من السودان مرتكزات فن المنمنمات، والعلاقة بين ماضي وحاضر
هذا الفن الإسلامي الأصيل، في محاولة لاستكشاف آفاقه. أما ورقة الدكتورة إيناس
حسني من مصر، فقد تتبعت نشأة وتطور فن المنمنمات، والعناصر التي أثرت فيه؛ مبرزة
مشاربها الإيرانية والصينية وغيرها، معددة مدارس فن المنمنمات الإسلامية وخصائصها.
في حين حاول الدكتور خالد بن المنجي من تونس في مداخلته الإجابة عن سؤاله الجوهري
والمتمحور حول الحدود الواصلة والفاصلة بين المرجعية الإسلامية والخصوصية البصرية
ذات الأصول الفارسية للمنمنمات.
أما الجلسة الثانية التي ترأستها الدكتورة
مهى عزيزة سلطان من لبنان، فقد قدم خلالها الدكتور حسين جمعان من السودان ورقته
البحثية، التي لاحظ فيها أن غياب مناهجنا الفنية أدى إلى تداخل (التقليعات)
التشكيلية، خصوصا لدى شباب الفنانين، الذين يحتاجون إلى الرجوع بين الفينة والأخرى،
إلى جذورنا الفنية، للإنطلاق منها إلى آفاق أرحب؛ متتبعا مسار فن المنمنمات، راصدا
تطوره ومشاربه، عارضا نماذج معاصرة لمنمنمات سودانية فطرية.
أما الدكتورة ريم وجدي من مصر فقد اتحفت
الحضور بمداخلة مركزة ودقيقة حول واقع المنمنمات الإسلامية، مركزة على الجانب
الإشكالي الديني (التشكيل والتحريم). ليتناول بعد ذلك الدكتور نور الدين الصغير من
تونس في مداخلته تطورات وأبعاد المنمنمات الأندلسية، مبرزا أصنافها ومراكزها.
وفي اليوم الثاني للندوة التداولية ترأست
الجلسة الصباحية الدكتورة إيناس حسني، حيث تناول الكلمة أستاذ تاريخ الفن بمعهد
الشارقة للفنون، الأستاذ محمد مهدي حميدة من مصر، مقدما ورقته البحثية التي ناقشت
طبيعة العلاقة بين المنمنمة كنص بصري، والنص الأدبي والأغراض المتوخاة منهما، في
ضوء السياقات التي تأتي فيها تلك الأعمال الفنية، كمنجز بصري قد يتجاوز النص
الأدبي الذي هو الأصل؛ ليقدم تحليلا ضافيا مباشرا، لمنمنمات معاصرة من الفن
الباكستاني.
وليأتي بعد ذلك دور الدكتورة مهى
عزيزة سلطان من لبنان التي ركزت في مداخلتها على إسهامات الواسطي في فن المنمنمات.
محاولة الإجابة عن سؤال متعلق بسبب اكتشافنا المتأخر للواسطي؛ لتخلص إلى تحليل
أسلوب هذا الفنان العربي الرائد، وإبراز تجليات موهبته. متسائلة عن مكانة
المنمنمات في الألفية الحالية.
الأستاذ محمد الناصري من العراق، تناول في
مداخلته البعد التاريخي للمنمنمة، متوقفا عند بعض مميزات أسلوب الواسطي وعناصر
تكويناته، وطرق تمييزه بين أشخاص منمنماته. مقارنا بين أسلوب هذا الأخير وأسلوب
بهزاد.
وخلال الجلسة الأخيرة التي ترأس وقائعها
الدكتور حسين جمعان من السودان، تتبع الدكتور عبد الكريم السيد رحلة المنمنمات
متوقفا عند إسهامات يحيى الواسطي باعتباره مؤسس مدرسة بغداد، دون تقيده بأية قواعد
تقليدية. ليأتي دور الدكتورة مها سنان من السعودية التي ركزت على إشكالية الموقف
الديني من التوصوير، مبرزة بعض التجارب التي عادت للنهل من نبع المنمنمات، لكن من
منظور معاصر؛ متوقفة عند تجربة نسوية كتجربة منيرة موصلي. وفي الأخير جاءت مداخلتي
المتواضعة، التي حاولت من خلالها إبراز إسهامات الواسطي في فن المنمنمات، من خلال
إبراز خصائص أسلوبه. مستعرضا الأبعاد الجمالية والتشكيلية لمنمنمات الواسطي، مقدما
في الأخير تحليلا بنيويا لإحدى منمنماته (دار الكتب) المقامة الثانية كنموذج؛
اعتمادا على النسخة الباريسية لمقامات الحريري، لكونها الوحيدة الموقعة باسم
الواسطي.
وقد تمخضت أشغال هذه الندوة الدولية
الهامة عن إصدار توصيات، أهم ما جاء فيها التركيز على ضرورة نشر الأبحاث المشاركة
في كتاب تخصصي، وتفعيل الورش والمشاركات الخارجية في المعارض المختصة بمجال
المنمنمات الإسلامية، وتأسيس موقع إلكتروني يحوي المشاركات والبحوث التي قدمت خلال
الندوة، وانفتاح الندوة على الجامعة لتوسيع قاعدتها الجماهيرية، وكذا تأسيس جمعية
عربية خاصة بالفنون، ترعاها إمارة الشارقة، تكون من مهامها الإعتناء بالفنانين
والباحثين العرب، وتنظيم المؤتمرات الفنية، وعقد اللقاءات، وإصدار المطبوعات ذات
الصلة.
بقلم: محمد الزبيري
تشكيلي مغربي



0 التعليقات:
إرسال تعليق