السبت، 9 مارس 2013

سيزان وتفرد الرؤيا



كتبهامحمد الزبيري ، في 22 يونيو 2006 

صورة فوتوغرافية لجبل سان فيكتوار, احتفظ بها مند طفولتي



صورة لوحة لسيزان لنفس المنظر لجبل سان فيكتولر

سيزان وتفرد الرؤيا
مائة سنة على رحيل امام الفن الحديث

(مقال نشرته لي جريدة العرب الأسبوعي اللندنية يوم السبيت 17/6/2006)

منذ بداية هذا العام انطلقت الاحتفالات بمرور العام المائة على رحيل امام الفن الحديث الفرنسي بول سيزان, ولك بمعرض ضخم انطلق من واشنطن على ان يحط الرحيل هذا الصيف بمسقط رأس الفنان , لينضاف الى عشرات الأنشطة الثقافية والفنية المخلدة لذكرى هذا العبقري. فبالاضافة الى المعرض الذي يحتضنه متحف (دورسييه)لأعمال سيزان وزميله بيسارو اكراما لصداقتهما وللفترة التي جمعتهما معا والتي دامت نحو عشرين سنة من 1865 الى 1885 بعرض اعمال تلك الفترة, هناك العديد من الاصدارات الأدبية والتاريخية التي نشرت بالمناسبة ,متناولة حياة سيزان وفنه فضلا عن عشرات البحوث والروايات التي سبق ان طبعت واسهبت في تناول حياة سيزان من شتى جوانبها مثل رواية:(حريق السانت فيكتوار)الصادرة سنة 1995.
سيزان ابن الجنوب الفرنسي ولد سنة 1839 لأسرة ثرية من اصول ايطالية تحترف التجارة, غير ان حبه للفن ابعده عن حرفة ابيه وجعله ينغمس في عالم الشعر والتشكيل؛حيث سيرحل الى باريس سنة 1962, وهناك سيتعرف على زمرة من الفنانين الذين كان لديهم هاجس التجديد, مثل الروائي اميل زولا. وكانوا يضعون اللمسات الأولى على اشهر مدرشة في شارع التشكيل؛ انها الانطباعية او التأثيرية, وأولائك هم: بيسارو وكلود موني وادوارد مانيه ورونوار…لكن تفرد سيزان وتميزه يرؤيا خاصة مبتكرة كان سببا في فشله المتكرر في الا لتحاق بمدرسة الفنون الجميلة بباريس.
سيزان الذي كلن معجبا بأسلوب دولاكروا قبل ان يتحول عنه عند لقائه بالانطباعيين الذين لم يعمر معهم طويلا, اذ شارك في معرضهم الأول سنة 1874ومعرضهم الثالث سنة 1877فقط, وسرعان ما رأى ان التأثيرية اصبحت تدور في حلقة مفرغة مكررة نفسها بنمطية غير مستساغة من قبله؛ فلم يرض قط على لهاث الانطباعيين وراء القبض على هباء الضوء والمظهر, في حين كانت غايته القبض على لب الأشياء والجوهر.لينطلق بعد ذلك في اكتشافاته الخاصة باهمية اللون الرمادي وحركة اهتزار الهواء الماثل بين عيني المشاهد والمنظر الطبيعي واثرذلك على الرؤيا والألوان.
لقد كان هدفه كما عبر عن ذلك صراحة هو جعل الانطباعية اكثرعقلانية, دون ان يجازف بشاعرية العمل الفني او يتخلى عن اعطاء الأولوية للبناء..
كنت طفلا صغيرا, بمحض الصدفة, وانا امارس احدى هواياتي القديمة وهي البحث والتنقيب وسط ركام الكتب والمجلات القديمة المعروضة للبيع هنا وهناك, وحتى قبل ان اعرف سيزان وقبل ان تقع انظاري على اي من لوحاته, وصلت الى يدي صورة فوتوغرافية قديمة لجبل سان فيكتوار, فادهشني جمالها واقتنيتها واحتفظت بها. وفي يوم اول عهدي بالفن كانت تلك الصورة اول لقاء لي بتلك اللوحات السيزانية التي ملكت فؤادي, كان حادثا لا ينسى وتجربة اكاد اجد لذتها الآن؛ فما كدت اتطلع للوحات جبل سان فيكتوار حتى تذكرت الصورة الفوتوغرافية القديمة التي احتقظ بها لنفس الجبل مند طفولتي, لا لمعرفتي باهميتها او بسيزان, بل فقط لجمالها؛ فقمت مهرولا للبحث عنها, ولأفاجأ بانها تحمل نفس الاسم:جبل سان فيكتوار!وقد احببت ان اطلعكم عليها..انها تلك اللوحات الرائعة التي خلد بها الفنان منطقة البروفانس, والتي خصصها لجبل سان فيكتوار وجبل سانت جونوفيف؛ ذلك الطود السماوي الجليل, والأبنية الأرجوانية اللون المرتمية على سفوحه المسربلة بالأشجار الباسقة الخضراء..منظر سكن وجدان الفنان سيزان, فكان كلما قوبل بالجحود او مني بخيبة او ضاق صدره من جراء صخب المدينة الا ولجأ الى هذا الصدر الحنون, مترجما الحب الأبدي الى روائع ظلت الى اليوم توصل نفس احساس الفنان الى افئدة كل من صافحت عيناه ملمسها الغض.
لقد كان سيزان يعيد العدة ويخرج الى جبل سان فيكتوار, ليمضي اياما منعزلا عن العالم, منفردا بالجبل الممانع في الافضاء بسرجماله للفنان ان يختبرصبره وعناده.
وهكذا كان يقضي الساعات الطوال على مدار السنة بحرها وبردها, يحاور الجمال التاوي في كبرياء هذا الجبل الذي استسلم اخيرا لسكين سيزان وريشته ليخلد جماله في 44 لوحة زيتية وحوالى 37 لوحة اخرى مائية, هي خلاصة ايام وساعات طوال قضاها سيزان متجولا بين قمم وفجج سان فيكتوار, حتى يتشبع حسه بنغمات الطبيعة قبل ان يطلق العنان لفرشاته لتترجم ذلك الى نبضلت لونية متجانسة متناسقة, باحثا عن فلسفة الأشكال المتوارية في عمق الألوان. وربما كان هذا هو قصد الفنان بقولته الشهيرة:(عندما يبلغ اللون حد الامتلاء يبلغ الشكل حد الاكتمال).فلا عجب ان رأينا احدى اللوحات التي خلد بها هذا الجبل تباع يوم 7/5/2001 في نيويورك في مزاد علني بتمن يناهز 40 مليون دولار. وقد كانت تلك اللوحات المخلدة للجبل من انتاج فترات مختلفة من حياة الفنان خصوصا المرحلة الممتدة بين 1885 و1887 حيث كان اسلوبه قد وصل الى اوجه.
بحث ومثايرة وعزم لا يلين قاد الفنان الى استنباط اسلوب متين سيكون له شأن في مستقبل الفن. ولم يأت ذلك من فراغ, اذيحكى ان هذا الفنان العنيد كان يقضي الأوقات الطوال في رسم عمل فني, وفي النهاية قد لا يرضى عنه , فيمزقه او يلقي يه من النافدة او يتركه وراءه في الحقل لأنه لم يرق الى طموحه؛ مع ما يصاحب ذلك من قلق دائم وبحث مستمر كان يؤدي بالفنان في بعض لحظات هيجانه الى اخذ حفنة من الأصباغ بيديه ويلطخ بها عمله الفني بحركات عنيفة
عديدة هي الكتب والروايات والأشعار التي تناولت سيرة سيزان وفنه الذي كثيرا مارفض من قبل الخاصة والعامة. وهذا ان دل على شئ فانما يدل على عبقرية فريدة وابداع اصيل صدم الذوق التقليدي بحلول مبتكرة ومعالجات جريئة لمواضيع بسيطة بأسلوب بسيط ايضا لكنه عميق لحد التحليل, وكان ذلك منطلقا الى عالم التكعيبية التي يعتبر سيزان سيدها الأول قبل بيكاسو وجورج براك. وجات سنة 1906 ليسقط الفنان مغشيا عليه بعد اجهاد وتعب, من جراء الرسم المتواصل تحت المطر؛ فكانت وفاته اثر هذا الحدث الأليم.
ان فلسفة سيزان الحقيقية ومواقفه الجريئة ونظرياته في الفن التي لاتقل اهمية عن لوحاته لا يمكن استنباطها الا من رسائله لأصدقائه وزملائه وابنه؛ وفي هذا الباب تبرز اهمية كتاب صدر سنة 1971 تحت عنوان:(نظريات الفن الحديث) لمؤلفه هرشل تشب, حيث يعتبر هذا الكتاب كنزا في بابه.

بقلم :محمد الزبيري

0 التعليقات:

إرسال تعليق