السبت، 9 مارس 2013

أصيلة..تبدع, تسحر , تتأصل



أصيلة..تبدع, تسحر , تتأصل


كتبهامحمد الزبيري ، في 3 سبتمبر 2006 

تحت عنوان: أصيلة تبدع تسحر تتأصل
ارباب الفكر والقلم يلتقون نجوم الريشة والسياسة والنغم
نشرت لي جريدة العرب الأسبوعي في عدديوم السبت 26/8/2006 المقال التالي:


اختتم موسم أصيلة أعماله يوم 16 غشت ـ آب الماضي ليترك وراءه مذاق بهجة ثقافية لا تنسى.
فقد انطلقت أعمال الدورة الثامنة والعشرين لموسم المدينة الثقافي الدولي, ببرنامج كان بمثابة استمرارية لما قدمه الموسم الثقافي السابق من نقاشات فكرية وعلمية وفنية. وافتتحت الندوات بندوة بندوة في موضوع (الولايات المتحدة الإفريقية: إلى أين؟), وتناولت الندوة المحاور التالية:(التجمعات الإفريقية ومشروع الوحدة الإفريقية), و(الاتحاد الإفريقي وقدرته على تحقيق الوحدة الإفريقية), و(التحالفات الإفريقية والمصالح الأجنبية ومصير مشروع الولايات المتحدة الإفريقية), وناقش الموضوع سياسيون وباحثون واقتصاديون واعلا ميون على مدى ثلاثة أيام. كما تضمن البرنامج العديد من الندوات السياسية والفكرية الأخرى إضافة إلى تكريم بعض الشخصيات كان من بينهم الكاتب والمفكر المغربي الدكتور عبد الهادي بوطالب الوزير والمستشار الملكي السابق, كما خلدت أصيلة هذا العام مئوية الشاعر والرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور, الذي كان من رواد أصيلة واحد أقطاب المنتدى العربي ـ الإفريقي, الذي كان يرأسه بالمشاركة مع الأمير الحسن بن طلال.
وشهدت المدينة ندوة حول موضوع:(حركة التحديث في عالم الإسلام اليوم), وبحثت ندوة أخرى موضوع:(الدولة الوطنية والإثنية, ظاهرة أمريكا اللاتينية). أما آخر الندوات فناقشت موضوع:(الإعلام في العالم العربي والتطورات في البلاد العربية) و(الإعلام في العالم العربي وقدرته على التواصل مع الآخر"غير العربي"), و(آفاق تطور الإعلام في العالم العربي في ضوء المستجدات العلمية).و( العولمة, التجمعات الاقتصادية, الإكراهات الكونية).
كما شمل موسم هذا العام تنظيم معرض للفنانين التشكيليين بالمغرب العربي, ومعرضا آخر بعنوان:(نظرة على التراث الثقافي لسنغور), في قاعة عرض مركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية, إضافة إلى معرض لفنانين تشكيليين برتغاليين في رواق (برج القمرة), بينما عرض الفنانان المغربيان عبد الكريم
الوزاني و مصطفى بوجمعاوي آخر اعمالهما في رواق مكتبة الأمير بندر بن سلطان.



لقد أصبحت مدينة أصيلة محراب الفكر والفن بامتياز, وقبلة لكل رواد الثقافة والفن ومحبيه من كل أرجاء المعمور؛ فيأوي إليها الجميع عند كل صيف, سواء بموعد أو بد ونه؛ عندما يستريح النور على شاطئ البهجة والحبور, وتزهر الألوان في حدائق الفن بتلات إبداع, ينثرها في حضن كل الأزقة وعلى صدور كل الجدران وجدان فنان.
مشهد بصري فريد من نوعه في العالم الثالث على الأقل, جدران ناصعة البياض, تنتظر الفيض اللوني من فنانين يجيدون لغة الجداريات المتميزة ببساطة التركيب وسهولة الاستيعاب والاندماج في محيط يعشق البساطة رغم تعقيدات الحمولة التاريخية التي تزخر بها المدينة, وتناقضات الحضارة الزاحفة خلف جدران المدينة القديمة.
وهاهم الفنانون يلبسون الجدران أشكالا وألوانا, بعضهم استقاها من أسلوبه وأشكاله القديمة   التي تميز بها أسلوبه المعروف, وبعضهم فضل أن يحاور الجدار بلغة جديدة مبتكرة ومستمدة من جمال المشهد البصري المحيط به.

نخبة مبدعة من المفكرين والفنانين من أبناء هذه المدينة النائمة على خد البحر طيلة السنة, أقدموا على فكرة بناء مشروع تنموي متطور, تكون قاطرته هي الثقافة.وهذه كانت فكرة خلاقة, وفي نفس الوقت مغامرة جريئة؛ إذ لأول مرة في المغرب وربما في العالم العربي ككل, يمتزج الفن التشكيلي بالمعيش اليومي للناس البسطاء, ونخرج من فن النخبة إلى فن الشارع لضرب عصفورين بحجر واحد, لأجل تحقيق إقلاع اقتصادي وثقافي في نفس الوقت. وكثيرا ما سخر البعض من هذه الفكرة وتوقع لها الخمود والاندثار في رمال شاطئ أصيلة المنسي, بل وقاطعها حتى بعض رموز الثقافة بالمغرب قبل أن يصبحوا متهافتين على حضور كل مواسمها فيما بعد. لكن بفضل إصرار أصحاب المشروع ودعم السكان الذين تجاوبوا مع الفكرة وتبنوها بكل قوة وبشكل عفوي, بات المهرجان ـ رغم ضعف موارده ومحدودية إمكانياته ـ نموذجا لتنمية ثقافية اقتصادية في مدينة صغيرة, تفتقر لأبسط مقومات البنية التحتية الضرورية لمشروع طموح كهذا. فبعد ما تم ترميم قصر الريسوني وتحويله إلى قصر للثقافة, خصصوا احد أجنحته لمحترف الحفر, ليصبح الأول من نوعه في المغرب؛ يستقطب كل سنة نخبة من نجوم فن الحفر في العالم, لتتطور الفكرة وتصبح محترف للحفر يشرف عليه احد الفنانين العالميين لتدريب شباب الفنانين سواء من أبناء المدينة أو من طلاب معاهد الفنون الجميلة.
هذا المهرجان الذي بدأ بسيطا أصبح اليوم نموذجا يحتدا للمهرجانات الثقافية والفنية الناجحة في العام, وحلما لكل مثقف وفنان. وقد بلغ اليوم مرحلة النضج بعد 28 موسما؛ واتسع وعاؤه ليحوي السينما والموسيقى والأدب فضلا عن التشكيل بشتى أصنافه. وليكتسي طابعا عالميا تزخر جنبات أروقته بندوات ومحاضرات ولقاءات يؤتت فضاءها أرباب الفكر والقلم, ونجوم الريشة والسياسة والنغم, من مختلف القارات. إن ما كفل النجاح تلو النجاح لهذا المهرجان هو خروجه عن المألوف والنمطية المناسباتية والفولكلورية النخبوية السياحية التي تطبع كل المهرجانات المماثلة في العالم , وإصراره على التلقائية والمشاركة العفوية الشعبية لأبناء المدينة؛ لا فرق بين أمي ومتعلم ؛ الكل هنا منخرط في الفعل الثقافي .
ويوما بعد يوم أصبح ذلك النهج الإبداعي سلوكا حضاريا وفعلا ثقافيا عاديا مألوفا من قبل الجميع, مما جنبه الفشل وكفل له النجاح المستمر.
وهكذا كان أول مهرجان صيف سنة 1978 بذرة ناجحة في تربة صالحة, أعطت ( الموسم) هذه الشجرة السامقة, أصلها في أصيلة وأغصانها المثمرة ممتدة إلى كل قارات العالم. ولا بد من الإشارة إلى أن أبناء أصيلة يستهجنون كلمة: (مهرجان), بل لا يقبلون منك أن تطلق هذه الكلمة على هذا الفعل الثقافي؛ خصوصا القائمون عليه. وقد لمست ذلك شخصيا, خصوصا عندما اتيحت لي الفرصة للمشاركة في هذا الفعل الثقافي الخلاق سنة 1987. فقد كنت احد طلبة معهد الفنون الجميلة الذين اختيروا للمشاركة في محترف الحفر؛ وكنت عندما انطق بكلمة: مهرجان أرى غضبا في وجه المسئولين, لأنهم اختاروا أن يطلقوا على نشاطهم اسما أرقى من ذلك وهو: (موسم).ربما لاتسام الكلمة بالاستمرارية وارتباطها بالأفراح الشعبية الصادقة والأعياد الدينية العديدة. أما كلمة مهرجان فهم يستهجنونها لأنها ترتبط بتداعيات مصطنعة سياحية تجارية عابرة.
إن المهرجان قد جلب لأصيلة عددا من المشاريع الاقتصادية والثقافية الهامة التي خلقت عددا من مناصب الشغل القارة والموسمية مثل مكتبة الأمير بندر بن سلطان الذي كان قد اقترح سنة 1997 عند حضوره للموسم, القيام بمشروع ذو صبغة ثقافية يليق بالمدينة وموسمها, فكانت المكتبة الضخمة التي تطلب إعداد دراستها المعمارية فقط سنة كاملة, فأتت متطورة على أحدث طراز, مجهزة بأحدث الأجهزة للعرض والاتصال عبر الأقمار الاصطناعية والترجمة الفورية, وقاعات المحاضرات ومرافق أخرى هامة؛ كل ذلك تطلب غلافا ماليا قيمته 80 مليون درهم.وفي يوم 13 /1/2006 تم تدشين هذه المعلمة من طرف العاهل المغربي.
فما كانت أصيلة لتحصل على مثل هذه المشاريع الراقية لولا المهرجان, عفوا الموسم !

بقلم: محمد الزبيري

0 التعليقات:

إرسال تعليق